ذَكَروا أنَّ مِنَ
الأخطاءِ الشَّائعةِ قَولَهُم: (آذان صاغِيَة)، وأنَّ الصَّوابَ أن يُقالَ: (آذان
مُصْغِية)؛ لأنَّ (مُصْغِية) اسمُ فاعلٍ مشتقٌّ من الفِعْلِ الرُّباعيِّ (أَصْغَى)
بمعنَى: (استَمَعَ)، وأمَّا (صاغِيَة) فاسمُ فاعلٍ مشتقٌّ من الفعلِ الثُّلاثيِّ
(صَغَا) أو (صَغِيَ) بمعنَى: (مَالَ)، والأُذُنُ تُوصَفُ بالاستماعِ لا بالـمَيْلِ.
وفي هذه
التَّخطئةِ نَظَرٌ؛ فالأفعالُ (صَغَا) و(صَغِيَ) و(أَصْغَى): جميعُها من مادَّةٍ
تدلُّ علَى الـمَيْلِ. قال ابنُ فارسٍ في «مقاييس اللُّغة»: (الصَّادُ، والغَيْنُ،
والحَرْفُ المعتلُّ: أصلٌ صحيحٌ، يَدُلُّ على الـمَيْلِ) انتهى. فإذا قيلَ: (صَغَا
إلَيْهِ سَمْعِي، وصَغِيَ) كانَ معناهُ: مالَ إليهِ سَمْعِي، وإذا قيلَ:
(أصْغَيْتُ إليهِ سَمْعِي) كانَ معناهُ: أمَلْتُ إليه سَمْعي. قالَ ابنُ جنِّي في
«التنبيه على شرح مشكلات الحماسة» (1/ 328): (فأمَّا قولُهم: (قد أصغيتُ إلَى هذا القولِ،
واستمعتُه) فإنَّه أيضًا منقولٌ من (صغَا إليه سَمْعي)، غيرَ أنَّ المفعولَ
محذوفٌ؛ أي: أمَلْتُ إليه سمعي، وأولَيْتُهُ ذهني) انتهى. وقال ابنُ سِيدَه في «المحْكَم»:
(وصَغَا إلَيْهِ سَمْعِي يَصْغُو صُغُوًّا، وصَغِيَ صَغًا: مَالَ. وأَصْغَى
إِلَيْه سَمْعَهُ: أمَالَهُ) انتهى. والسَّمْعُ يُطْلَقُ -في اللُّغةِ- علَى حِسِّ
الأُذُنِ، وعلَى الأُذُنِ نَفْسِها. وجاءَ الزَّبيديُّ بالفِعْل (صَغَا) مَعَ الأُذُنِ
فقال في «التَّاج» (صغو): (ومِنْهُ: صَغَتْ إليهِ أُذُنُه؛ إذا مالَتْ) انتهى. وذَكَرَ
ابنُ قُتَيْبةَ في «أدب الكاتب» (ص340) أنَّ (صَغَوْتُ إلَى الرَّجُلِ،
وأصْغَيْتُ) بمعنًى واحدٍ.
ومن الشَّواهدِ
علَى صحَّة قولِهم: (آذان صاغية): ما رَوَوْا عَن أكثم بن صَيْفِيٍّ أنَّه قالَ:
(فَتَلَقَّوْهَا بأَسْماعٍ صاغِيَةٍ، وقُلوبٍ واعِيةٍ)؛ حَكَى ذلكَ أبو حيَّان
التَّوحيديُّ في «البصائر والذَّخائر» (1 /154)، وقالَ: (الَّذي رَوَيْتُهُ
وحَكَيْتُهُ عَنْ أَكثم: رواه أبو بكر بنُ دُرَيْدٍ، عن أبي حاتمٍ، عن الأصمعيِّ).
وجاء في «كتاب الصِّناعتين» (ص279): (وَمَدَحَ
أعرابيٌّ قَوْمًا، فقالَ: أُولئكَ غُرَرٌ تُضِيءُ مِن ظُلَمِ الأُمورِ الـمُشْكلةِ،
قَدْ صَغَتْ آذانُ الـمَجْدِ إليهِمْ).
وممَّا يُستأنَسُ به قولُ أبي تمَّام حَبيبِ
بنِ أوْسٍ الطَّائيِّ:
جَدِيلةَ والغَوْثَ اللَّذَيْنِ إِلَيْهِمَا *
صَغَتْ أُذُنٌ للمَجْدِ لَيْسَ بِهَا وَقْرُ
وقولُ أبي عبادةَ البحتريِّ:
أرَى كَذِبَ الأحْلامِ صِدْقًا وكَمْ صَغَتْ *
إلَى خَبَرٍ أُذنَـايَ غَيْرِ صَدُوقِ
واللهُ تعالَى
أعلمُ.
تذييل:
هذا تعليقٌ علَى المقالِ أكرمَني به أستاذُ
العربيَّةِ فيصل بن علي المنصور -نفع الله بعلمِه-:
(حقٌّ ما ذكرتِ، فـ(صغا) و(صغِي) وحتى (أصغَى)
كلُّهنَّ بمعنى (الميل)، وليس (الاستماع). ولذلك كانَ الأصل أن يقال: (أصغَى إليه
سمعَه). فإذا قلتَ: (أصغَى إليه)، كانَ المعنَى (أمال إليه)، وحذفتَ المفعولَ
لغلبة الاستعمالِ على (إمالة السمع)، كما غلَّبوا (المأبون) على الشرِّ، و(الثناء)
على الخير، معَ أنَّ الاشتقاقَ يُجيز أن يكونا في الخير والشرِّ. ولذلك فإنَّ
قولهم: (أذنٌ صاغية) صحيحٌ. وذلك على معنَى (مائلة)، كما أنَّ (أصغَى إليه سمعَه)
بمعنَى (أمال إليه سمعه)، إلَّا أنَّ هذا متعدٍّ، وذاك لازمٌ) انتهى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق