السبت، 10 أكتوبر 2020

تصحيح موضع محرف في الكلام عن إطباق الضاد


جاء في «سرّ صناعة الإعراب» (1/ 61) لابنِ جنّي (ت 392) [تح: د. حسن هنداوي]: (والإطباقُ: أن ترفعَ ظهرَ لسانِكَ إلى الحنَكِ الأعلَى مُطبِقًا له، ولولا الإطباقُ لصارتِ الطَّاءُ دالًا، والصَّادُ سِينًا، والظَّاءُ ذالًا، ولخرجتِ الضَّادُ من الكلامِ؛ لأنَّه ليس مِن موضعِها شيءٌ غيرُها تزولُ الضَّادُ إذا عدمتِ الإطباقَ إليه) انتهى.

وفي «المحكم» (ط ب ق) لابنِ سيده (ت 458): (ولولا الإطباقُ لصارتِ الطَّاءُ دالًا، والصَّادُ سِينًا، والظَّاءُ ذالًا، ولخرجتِ الضَّادُ من الكلامِ؛ لأنَّه ليس مِن موضعِها شيءٌ غيرُها، تزولُ الضَّادُ إذا عدمتِ الإطباقَ البتَّةَ) انتهى.

ومثلُه في «الموضح في التَّجويد» (ص90)  لعبد الوهَّاب القرطبيِّ (ت 461) [تح: د. غانم قدوري الحمد].

ومثلُ الَّذي في «المحكم» أيضًا وقَع في «اللّسان» و«التَّاج»، ولكن جاء فيهما (عدم) مكانَ (عدمت).

وفي «شرح المفصَّل» لابن يعيش (ت 643) (10/ 129) كذلك: (ولخرجتِ الضَّادُ من الكلامِ؛ لأنَّه ليس مِن موضعِها شيءٌ غيرُها، فتزول الضَّادُ إذا عدمتِ الإطباقَ البتَّةَ) انتهى.

ويظهَرُ لي أنَّ الصَّوابَ ما جاءَ في «سرّ صناعة الإعراب»، يدلُّ علَى ذلك أنَّ المحقِّقَ أشار في حاشيتِه إلَى أنَّ لفظَ (تزول) وقَع في إحدَى النُّسخِ: (توول) وفوقَه (تؤول). وهذا منسجمٌ غايةَ الانسجامِ مع قولِه: (إليه)، فالجارُّ والمجرورُ متعلِّقان بالفعلِ. ولو قيل: (تؤول الضَّاد إذا عدمت الإطباق البتَّةَ) لم يكن للكلامِ معنًى.

كما أنَّ قولَه: (تزولُ الضَّادُ إذا عدمتِ الإطباقَ البتَّةَ) وإن كان معناه صحيحًا فهو كالتَّكرارِ لقولِه قبلَه: (ولخرجتِ الضَّادُ من الكلامِ)، بخلافِ قولِه: (تزولُ الضَّادُ إذا عدمتِ الإطباقَ إليه)، فالضَّميرُ في (إليه) يرجِعُ إلى (شيءٌ)، والمرادُ بيانُ أنَّ الضَّادَ إنَّما تخرُج من الكلامِ إذا عدمتِ الإطباقَ لأنَّها لا تصيرُ حينئذٍ حَرْفًا آخَرَ كسائرِ الحروفِ المطبَقةِ، إذْ لا يُشارِكُها في مخرجِها غيرُها.

وقد جاء الكلامُ موضَّحًا عند ابن عصفور (ت 669) في كتابِه «الممتع في التَّصريف» (2/ 674) [تح: د. فخر الدين قباوة] إذ يقولُ: (ولولا الإطباقُ لصارتِ الطَّاءُ دالًا، والصَّادُ سِينًا، والظَّاءُ ذالًا -لأنَّ الفارقَ بينها إنَّما هو الإطباقُ- ولخرجتِ الضَّادُ من الكلامِ؛ لأنَّه ليس مِن موضعِها حرفٌ غيرُها فترجِعَ الضَّادُ إليه إذا زال الإطباقُ) انتهى.

واللَّه تعالَى أعلمُ.


الخميس، 9 يوليو 2020

الإمالة في القوافي



• إذا كانَتِ القصيدةُ رائيَّةً، وبعضُ الرَّاءاتِ في قوافيها لا يجوزُ فيه إلَّا التَّفخيم، وبعضُها يحتملُ  التَّفخيمَ وغيرَه، فهل يُفخِّمُ المنشِدُ بعضًا، ويُرقِّقُ بعضًا؟
ذكرَ أبو العلاءِ المعريُّ أنَّ الأحسنَ في مثلِ هذا أن يُجريَها كلَّها علَى التَّفخيمِ؛ ليكونَ اللَّفظُ مُتجانِسًا. انظُر: «عبث الوليد» (ص221).

وقالَ في موضعٍ آخرَ من «عبث الوليد» (ص244) تعليقًا علَى كلمة (نصارَى) الواقعة في قافية بيتٍ من أبياتِ قصيدةٍ للبحتريِّ:
(من أنشدَ (نصارَى) في هذا البيتِ، فأمالَ؛ فقد أساءَ إساءةً بيِّنةً، وإنَّما ينبغي أن تُفَخَّمَ؛ لتكونَ القوافي علَى مِنهاجٍ واحدٍ. وكذلك جميعُ ما يقعُ فيه قافيتانِ، إحداهما يقوَى فيها التَّفخيمُ، والأُخرَى يُستحسَنُ فيها الإمالةُ؛ فإنَّما ينبغي أن يُحملَ على أغلبِ القافيتَيْنِ) انتهى.

وعند قول أبي الطيّب:
بُسَيْطةُ مهلًا سُقيتِ القِطارا * تركتِ عيونَ عَبيدي حَيارَى
قال في «اللَّامع العزيزيّ» (1/ 543):
(ينبغي أن تفتح الراء في (حيارَى)؛ لتكون مُشاكلةً للراء في قوله: (قطارا)، فإنْ أمالَها مُميلٌ؛ فقد أساء) انتهى.

وقالَ أيضًا في «شرح ديوان ابن أبي حُصينة» (2/ 184):
(إذا بُنِيَتِ القصيدةُ علَى الرَّاء، وجاءت فيها أبياتٌ تحتملُ التفخيمَ، وقوافٍ لا تحتملها، فينبغي أن يفخِّمَها المنشدُ كلّها؛ مثل قوله: (تنكَّرا)... و(الكرَى)، و(البُرَى)، و(الورَى)، وما كان مثلها؛ فيجوز فيها الوجهان، فينبغي أن يفخِّمَ المنشدُ، فيقول: (الكرَى) بفتح الرَّاء؛ ليكون اللَّفظ بالرَّوِيِّ مُتساويًا) انتهى.

• هل يجوز إمالة الألف إذا وقَعَتْ رِدْفًا وكانَتْ ممَّا يُمالُ؟
قالَ ابنُ الشَّجَرِيُّ في «أماليه» (1/ 218):
(وقولُه:
متَى رَكِبَ الفَوارِسُ أو مَتَا لا
تقديرُه: أو متَى لا رَكِبوا، ولا رَكِبوا بمعنَى: لَم يَرْكَبوا... و«مَتَى» ههنا شَرْطٌ، وجوابُه محذوفٌ للدّلالةِ عليه... وينبغي أن يُكتبَ « مَتَا لا» الثَّانية بالألفِ؛ لأنَّ ألفَها رِدْفٌ، وإذا صوَّرْتَها ياءً كانَ ذلكَ داعيًا إلَى جوازِ إمالتِها، وإمالتُها تُقَرِّبُها من الياءِ، وإذا كانتِ الألفُ رِدْفًا انفرَدَتْ بالقصيدةِ أو المقطوعةِ) انتهى.
والشَّطرُ المذكورُ لابنِ أحمرَ الباهليّ، انظر: «أمالي ابن الشّجري» (1/ 208).

الوقوف على آخر صدر البيت عارض والمراد به الوصل



قالَ ابنُ جنّي في الجزء الثاني من «الخاطريَّات» (ص199) [رسالة جامعية]:
(... العرب في الإنشادِ تقفُ علَى آخرِ المصراعِ الأوَّل -وإن لم يكن قافيةً أيضًا- وقوفًا تُطيلُه، وتتمكَّثُ فيه، كما تقفُ عندَ انتهائِها إلى آخرِ البيتِ؛ ألا تَرَى ما ورَدَ عنهم في الخَبَرِ عن إنشادِ ابن الرِّقاعِ داليَّتَهُ:
* عَرَفَ الدِّيارَ توهُّمًا فاعتادَها *
قالَ الفرزدقُ في هذه الحكايةِ: فلمَّا وصلَ إلى قولِه:
* تُزْجي أَغَنَّ كأنَّ إبرةَ رَوْقِهِ *
وقفَ كالمستريحِ، فقلتُ لجريرٍ مُسِرًّا إليه: ما تراه يستلبُ بهذا شبهًا؟ فقالَ
* قَلَمٌ أصابَ من الدَّواةِ مِدادَها *
فقالَ عديٌّ كذلك!
أفلا ترَى ما جرَى بين الرَّجلَيْن في هذا، لم يخرجْ إلى الوجودِ إلَّا في زمانٍ، وهذا يُقوّي العلم بطول التلبُّث والاستراحة بين المصراعين) انتهى.

ثمَّ ذكرَ أنَّ هذا الوقفَ عارِضٌ، وأنَّ المرادَ بالوقوفِ علَى آخرِ المصراعِ الأوَّل الوصل، قالَ –رحِمَه اللهُ-:
(والحكايةُ في البيتِ إنَّما هي: (إبرة روقهي) بالياءِ، وكذلك جميعُ الإنشادات إذا وقفتَ علَى آخر المصراعِ الأوَّل، وعرض فيه نحو هذا؛ أجري على ما ذكرنا؛ ألا ترَى إلى قولِه:
* كأنَّ دماءَ الهاديات بنَحْرهي *
وقوله:
* كأنَّ ثَبيرًا في عرانين وَبْلِهي *
وكذلك قوله أيضًا:
* وإنَّ شفائي عَبرةٌ مُهَراقَةٌ *
فوقوفُه بالتَّنوين يدلُّ على إرادته الوصل؛ لأنَّه من عوارضِه ولواحقِه، وليس هذا الموضع بآخر البيت فيُنسَب إلَى أنَّه تنوين الإنشاد الَّذي يراه بعض العرب إذا وقفَ على القافية؛ نحو قوله:
* سُقيتِ الغيثَ أيَّتها الخِيامُنْ *
وقوله:
* من طَلَلٍ كالأتحميِّ أنْهَجَنْ *
وذلك أنَّ (مهراقةٌ) ليست بقافية، فيكون التَّنوين الموقوف عليها تنوين الإنشاد للقوافي، وإذا لم يكن إيَّاه؛ علمت أنَّه تنوين الصَّرف، وإذا كانه؛ دلَّ ذلك على أنَّه يُراد بذلك الوصل لا الوقف، وإذا قويتِ الدّلالةُ علَى ذلك؛ كانَ الوقفُ العارضُ هناك في حال الإنشاد ملغًى غيرَ معتدٍّ؛ لقيام الدّلالةِ من حرف اللِّين، ومن التَّنوين علَى إرادة الوصل بهما دونَ الوقفِ) انتهى.

وقال ابنُ جنّي أيضًا في «الخصائص» (1/ 70):
( فإن قلتَ: فقد قالَ:
* أعِنِّي على برقٍ أريك وميضَهو *
فوقف بالواوِ، وليست اللَّفظة قافيةً، وقد قدَّمْت أنَّ هذه المَدَّةَ مُستهلَكةٌ في حالِ الوَقفِ. قيلَ: هذه اللَّفظةُ وإن لم تكنْ قافيةً، فيكونَ البيتُ بها مقفًّى أو مصرَّعًا؛ فإنَّ العربَ قد تقفُ علَى العَرُوضِ نحوًا من وُقوفها على الضَّربِ، أعني مخالفة ذلك لوقف الكلامِ المنثور غير الموزون؛ ألا ترَى إلى قولِه أيضًا:
* فأضحَى يسحُّ الماءَ حولَ كُتَيْفَتِنْ *
فوقف بالتَّنوين، خلافًا علَى الوقفِ في غير الشِّعر.
فإن قلتَ: فأقصى حالٍ قوله: (كُتَيْفَتنْ) -إذ ليست قافيةً- أن تُجرى مجرَى القافيةِ في الوقف عليها، وأنت ترى الرُّواةَ أكثرَهم على إطلاقِ هذه القصيدة ونحوها بحرف اللِّين للوَصْلِ؛ نحو قوله: (ومنزلي، وحَوْملي، وشَمْألي، ومحملي)، فقوله: (كُتَيفتنْ) ليس على وقفِ الكلامِ، ولا وقف القافيةِ. قيلَ: الأمر على ما ذكرت من خلافِه له، غيرَ أنَّ هذا أيضًا أمرٌ يخصُّ المنظومَ دون المنثورِ؛ لاستمرارِ ذلك عنهم؛ ألا ترَى إلى قولِه:
أنَّى اهتديتِ لتسليمٍ علَى دِمَنِنْ * بالغَمْر غيَّرهُنَّ الأعصرُ الأُوَلُو
وقوله:
كأنَّ حُدُوج المالكيَّة غُدْوَتَنْ * خلايا سَفِين بالنَّواصف من دَدِي
وقوله:
فمضى وقدَّمها وكانت عادتَنْ * منه إذا هيَ عرَّدَتْ إقدامُها
وقوله:
فواللهِ لا أنسَى قتيلًا رُزئتهو * بجانب قَوْسَى ما مشيتُ على الأرضِي
وفيها:
ولم أدرِ من ألقى عليه رداءهو * علَى أنَّه قد سُلَّ عن ماجدٍ مَحْضِي
وأمثاله كثيرٌ، كلُّ ذلك الوقوفُ على عَرُوضِه مخالفٌ للوقوف على ضربِه، ومخالفٌ أيضًا لوقوف الكلام غير الشِّعر.
ولم يذكرْ أحدٌ من أصحابِنا هذا الموضعَ في علم القوافي، وقد كانَ يجبُ أن يُذكرَ، ولا يُهمَل) انتهى.

أحوال الثلاثي الذي وسطه همزة في الشعر



عند قولِ أبي الطيِّبِ المتنبِّي:
ولا شُغِلَ الأميرُ عن المعالي * ولا عَن ذِكْرِ خالِقِه بِكَاسِ
قالَ أبو العلاءِ المعرِّيُّ في «اللامع العزيزي» (1/ 584):
((الكأس) -وما كان مثلها من الثلاثيِّ الَّذي وسطه همزة- تكون له ثلاثة أحوال في القريض:
• إذا جاءت في حشو البيتِ؛ فالمنشد مخيَّر؛ إن شاء همزَ، وإن شاء جعلَ الهمزةَ ألفًا؛ كقولِ القائل:
تَصُدُّ الكأسَ عنَّا أُمُّ عَمْرٍو * وكانَ الكاسُ مَجْرَاها اليَمِينا
• وإذا جاءت في القافية مع حروف ليست ذاتَ لينٍ؛ فالهمزُ واجبٌ، ومَن تَرَكَه فقد أساءَ؛ كقولِ الرَّاجزِ:
قد خَطَبَ النَّوْمُ إلَيَّ نَفْسي
هَمْسًا وأخْفَى مِن مقالِ الهَمْسِ
وما بأَنْ أُطْلِبَهُ مِن بَأْسِ
فإن لم يُهْمَزْ (بأس) في هذا الموضعِ؛ فهو عيبٌ لم تجرِ العادة بمثله، وإذا شُبِّهَ بعيوب الشِّعر؛ حُسِبَ من السّنادِ، إلَّا أن العربَ ساندَتْ في الواوِ والياءِ إذا كانتا رِدْفَيْنِ، ولم يُسانِدوا بالألفِ...
• وإذا كانت (كأس) ونظائرها مع حُروف لِينٍ؛ مثل ناسٍ وقاسٍ؛ فهمزها خطأٌ، وذلك في مثلِ بيت أبي الطيِّب. ونحوٌ منه ممَّا لا يجوز فيه همز المهموز قولُ القائلِ:
يقولُ ليَ الأميرُ بغيرِ جُرْمٍ * تقدَّمْ حينَ جدَّ بنا الـمِراسُ
فما لي إنْ أطَعْتُكَ من حياةٍ * ولا لي غيرَ هذا الرَّأسِ رَاسُ
فـ(راس) في القافيةِ لا يجوزُ همزُه) انتهى.

وقال أبو العلاءِ أيضًا في «شرح ديوان ابن أبي حُصينة» (2/ 69):
 (قوله: (لم يَرْقَ بَعْدَكُمُ شانُ)... أصلُ (الشَّأن) الهمز، إذا كان من شؤون الدُّنيا، ومن شؤون الرَّأس، وهو آخر هذا البيت مخفَّف، لا يجوز غير ذلك؛ لأنَّ الهمزة إذا كانت قبل الرَّوِيِّ وفي قوافي القصيدة حرفُ لينٍ؛ وجبَ أن تُخفَّفَ الهمزة لا غير. وإذا كانت الهمزةُ في ذلك مخفَّفة، وفي موضعها من القوافي حرفٌ مصمتٌ ليس بلينٍ؛ فتخفيف الهمزة خطأٌ.
مثال ذلك أنَّ امرأ القيس قالَ:
* ألا انعمْ صباحًا أيُّها الطَّلَلُ البالي *
ثمَّ قال:
* كأنَّ مكانَ الرِّدْفِ منه علَى رَالِ *
وأصل (الرَّال) الهمز، ولا يجوزُ همزهُ في هذا البيت.
[و]قال العجَّاج:
كأنَّه من طولِ جَذْعِ العَفْسِ
ورَمَلانِ الخِمْسِ بعدَ الخِمْسِ
يُنحَتُ من أقطارِهِ بفَأْسِ
ولا بدَّ من همز (الفأس) في هذا الموضع.
وإذا كانت الكلمة في حشو البيتِ؛ فالمنشدُ مخيَّر في التَّحقيقِ والتَّخفيف) انتهى.

وعند قول المتنبِّي:
كانَتْ مِنَ الكَحْلاءِ سُؤْلي إنَّما * أجَلي تمثَّلَ في فؤاديَ سُولا
قالَ ابنُ جنِّي في «الفسر» (3/ 169):
(والسُّؤْلُ يُهْمَزُ، ولا يُهْمَزُ. قالَ تعالَى: ﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾ بالهمزِ، وبغيرِ الهمزِ، إلَّا أنَّه في هذا البيتِ لا يجوزُ همزُهُ؛ لأنَّ الواوَ فيه رِدْفٌ) انتهى.

الاثنين، 6 يوليو 2020

تصحيح بيت لمهلهل بن ربيعة



كنتُ أتصفَّحُ الجزء الأوَّل من كتاب «الوصف في الشِّعر العربي» لعبد العظيم علي قناوي، فقرأتُ فيه هذا البيت -لمهلهِل بن ربيعةَ- (ص 252):
 كأنَّ كَوَاكِبَ الجَوْزَاءِ عُوذٌ * مُعَطَّفَةٌ عَلَى رَبْعٍ كَسِيرِ
وعُدتُّ إلى «ديوانِه» الَّذي نشَرتْه الدَّار العالميَّة، فوجدتُّهُ هكذا (ص 38):
كأنَّ كَوَاكِبَ الجَوْزَاءِ عُودٌ * مُعَطَّفَةٌ عَلَى رَبْعٍ كَسِيرِ
وقال شارحُه (!) في الحاشيةِ:
(الجَوْزاء: مِن بروج السَّماء. العُود: الخشبة الدَّقيقة أو الغليظة، الرَّطبة أو اليابسة. الرَّبْع: الدَّار وما حولها) انتهى.
وهذا كلامٌ لا معنى له -كما ترَى-.
وصوابُ البيتِ:
كأنَّ كَوَاكِبَ الجَوْزَاءِ عُوذٌ * مُعَطَّفَةٌ عَلَى رُبَعٍ كَسِيرِ
كما في «كتاب الأمالي» لأبي عليٍّ القالي (2/130). يقول -رحمه الله- في تفسيرِه:
(العُوذ: الحديثات النِّتاج، واحدتُها عائذ؛ وإنَّما قيلَ لها عُوذٌ؛ لأنَّ أولادَها تعوذُ بِهَا. والرُّبَع: ما نُتِجَ في الرَّبيع. يقولُ: كأنَّ كواكِبَ الجَوْزاءِ نُوقٌ حديثاتُ النِّتاج، عُطِّفَتْ علَى رُبَعٍ مكسورٍ، فهي لا تتركُه، وهو لا يقدر على النُّهوضِ) انتهى.

(حتى) الداخلة على (إذا)



اختلفَ العلماء في (حتَّى) الدَّاخلة علَى (إذا) علَى قولين:
أحدهما: أنَّها حرفُ ابتداءٍ، دخَلَتْ علَى الجملةِ الشَّرطيَّةِ.
والآخَر: أنَّها حرفُ جرٍّ، بمعنَى (إلَى).
انظر: «الدرّ المصون 3/ 436، 583» للسَّمينِ الحلبيِّ -رحمه الله-.
ورأيُ الجمهورِ أنَّها حرفُ ابتداءٍ. قالَ ابنُ هشامٍ -رحمه الله- في «مغني اللَّبيب 2/ 290»: (وكذا قالَ [أي: ابنُ مالك] في (حتَّى) الدَّاخلة علَى (إذا) نحو: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَـٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾: إنَّها الجارَّة، وإنَّ (إذا) في موضع جرٍّ بها. وهذه المقالةُ سبقه إليها الأخفشُ، وغيرُه، والجمهورُ علَى خلافِها، وأنَّها حرفُ ابتداءٍ، و(إذا) في موضعِ نصبٍ بشرطِها، أو جوابِها) انتهى.
و(حتَّى) الابتدائيَّة (هي حرفُ ابتداءٍ يُستأنَفُ بعدَها الكلامُ)، و(تدخلُ علَى جملةٍ مضمونُها غايةٌ لشيءٍ قبلَها، فتُشارِكُ الجارَّةَ والعاطفةَ في معنَى الغايةِ) انتهَى من «الجنَى الدَّاني 552، 553» للمُراديِّ -رحمه الله-.
وقالَ ناظرُ الجيشِ -رحمه الله- في «تمهيد القواعد 2997»: (وأمَّا (حتَّى) الابتدائيَّة؛ فاعلَم أنَّ معناها انتهاء الغايةِ... والمرادُ بكونِها حرفَ ابتداءٍ: أنَّها الكلامَ يُستأنَفُ بعدَها، ويقعُ بعدَها الجملةُ من فعلٍ ومرفوعه، والجملةُ من مبتدإٍ وخبرٍ، والكلمتانِ من شرطٍ وجزاءٍ). ثمَّ قالَ: (ومن وقوعِ الشَّرط والجزاءِ قولُه تعالَى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا﴾، وقوله تعالَى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾) انتهَى.
والله أعلم.

السبت، 4 يوليو 2020

نائلة


(نائلة) علمٌ منقولٌ عن صفةٍ.
قالَ ابنُ جِنِّي في «المبهج» (ص: 46): (الأسماءُ المنقولةُ إلى العلميَّة ضربانِ: عينٌ، ومعنًى. فالعَينُ أيضًا ضربان: اسمٌ غيرُ صفةٍ، واسمٌ صفةٌ، فالأوَّلُ منهما نحو: أَوْسٍ وحَجَرٍ وبَكْرٍ وحَمَلٍ... والثَّاني من هذه القسمةِ هو الاسم الصِّفة، وذلك نحو: مالِكٍ وحاتِمٍ وفاطِمةَ ونائلةَ، فهذه في الأصل أوصافٌ، ثمَّ نُقلت فصارت أعلامًا، كما صار أَوْس وبَكْر وحَمَل أعلامًا).
وقال الزَّمخشريُّ في «المفصَّل»: (والمنقولُ على ستَّةِ أنواعٍ: ... ومنقولٌ عن صِفةٍ؛ كحاتِمٍ ونائلةَ...).
قالَ صدرُ الأفاضل الخوارزميُّ في «التَّخمير» (1/ 170): (نائلةُ: اسمُ امرأةٍ... وهي في الأصل فاعلة من نالَ الشَّيءَ ينالُهُ، أو مِن نالَهُ يَنُولُهُ إذا أعطاه).
وقالَ ابنُ يعيش في «شرح المفصَّل» (1/ 29): (ونائلة فاعِلة من نُلْتُهُ نَوْلًا ونوَّلْتُه؛ أي: أعطيته).
وقالَ علمُ الدِّين السَّخاويُّ في «المفضَّل في شرح المفصَّل» (مخطوط): (ومن هذا القبيل: نائلة، وهو اسمٌ لصَنَمٍ، وهو صِفةٌ في الأصل، إمَّا مِن نالَتِ العطاءَ تَنولُه نَوْلًا فهي نائلةٌ، أو من نالت تَنالُ نَيْلًا فهي نائلةٌ، يُقال: نالَ الخيرَ ينالُه، وقد سُمِّيت المرأةُ أيضًا بذلك) انتهى.
وقال المطرِّزيُّ في «المغرب» (نيل): (ونالَ مِن عَدُوِّه: أضرَّ به، ومنه قولُه تعالَى: ((ولَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا))، وباسمِ الفاعلةِ منه سُمِّيتْ نائِلةُ).

وصية أبي تمام للبحتري


قال الوليد بن عبيد البحتريُّ:
كُنتُ في حَداثَتي أرُومُ الشِّعْرَ، وكنتُ أَرْجِعُ فيهِ إلَى طَبْعٍ، ولَمْ أَكُنْ أَقِفُ علَى تَسْهيلِ مَأْخَذِهِ، ووجُوهِ اقْتِضابِه، حتى قصدتُّ أبا تَمَّامٍ، وانقطعتُ فيه إليه، واتَّكلْتُ في تَعريفِه عليه، فكانَ أوَّل ما قال لي: يا أبا عُبادة، تخيَّر الأوقاتَ وأنت قليلُ الهُمومِ، صِفْرٌ من الغُمومِ. واعْلَمْ أنَّ العادةَ جَرَتْ في الأوقاتِ أن يقصدَ الإنسانُ لتأليفِ شَيْءٍ أو حِفْظِه في وَقْتِ السَّحَرِ؛ وذلكَ أنَّ النَّفْسَ قَدْ أَخَذَتْ حَظَّهَا مِنَ الرَّاحةِ، وقِسْطَهَا مِنَ النَّوْمِ. وإنْ أردتَّ التَّشْبيبَ؛ فاجْعَلِ اللَّفْظَ رَشيقًا، والمعنَى رَقيقًا، وأَكْثِرْ فيه مِن بَيانِ الصَّبابةِ، وتوجُّعِ الكآبَةِ، وقَلَقِ الأَشْوَاقِ، ولَوْعَةِ الفِراقِ. فإذا أَخَذتَّ في مَديحِ سيِّدٍ ذي أيادٍ؛ فأشْهِرْ مَناقِبَهُ، وأظْهِرْ مناسِبَه، وأَبِنْ مَعالِمَهُ، وشرِّفْ مقامَهُ. ونَضِّدِ المعانيَ، واحْذَرِ المجهولَ مِنْها. وإيَّاكَ أن تَشينَ شِعْرَكَ بالألفاظِ الرَّدِيئةِ، ولْتَكُنْ كأنَّكَ خيَّاطٌ يقطعُ الثِّيابَ علَى مَقاديرِ الأجسادِ. وإذا عارَضَكَ الضَّجَرُ؛ فأَرِحْ نَفْسَكَ، ولا تعملْ شِعْرَكَ إلَّا وأنتَ فارغُ القَلْبِ. واجْعَلْ شَهْوَتَكَ لقولِ الشِّعْرِ الذَّريعةَ إلَى حُسْنِ نَظْمِهِ؛ فإنَّ الشَّهْوَةَ نِعْمَ الـمُعِينُ. وجُمْلَةُ الحالِ أَن تعتبرَ شِعْرَكَ بِما سَلَفَ مِن شِعْرِ الماضينَ، فما اسْتَحْسَنَ العُلَماءُ فاقْصِدْهُ، وما تَرَكُوهُ فاجْتَنِبْهُ؛ ترشد إن شاءَ اللهُ.
قالَ: فأعملتُ نَفْسي في ما قالَ، فوقفتُ علَى السِّياسَةِ.

[ زهر الآداب (1/152) ].

الاثنين، 29 يونيو 2020

كسبته خيرًا وأكسبته


قالَ الأزهريُّ في «تهذيب اللُّغة» (10/ 79): (تقولُ: فلانٌ يَكْسِبُ أهلَه خيرًا...
وقالَ أحمدُ بنُ يحيَى: كُلُّ النَّاسِ يقولونَ: كَسَبَكَ فلانٌ خيرًا، إلَّا ابنَ الأعرابيِّ، فإنَّه يقولُ: أكسبَكَ فلانٌ خيرًا) انتهى.
وقال الزَّجَّاجيُّ في «أخباره» (ص198): (وقد حُكِيَ في لُغةٍ شاذَّةٍ: أَكْسَبْتُهُ، وليس بالجيِّدِ) انتهى.
وقال أبو عليٍّ القاليُّ في «الأمالي» (1/ 280): (كان أبو بكر بن دُرَيْد يقولُ: كَسَبْتُ المالَ، وكَسَبْتُهُ غيري، ولا يُجيزُ أَكْسَبْتُهُ. وغيرُه يقولُ: كَسَبْتُ المالَ، وأَكْسَبْتُه غيري. وهما عندي جائزانِ: كَسَبْتُهُ، وأَكْسَبْتُهُ) انتهى.
وقالَ الجوهريُّ في «الصّحاح» (ص212): (وكَسَبْتُ أهلي خيرًا، وكَسَبْتُ الرَّجُلَ مالًا، فكَسَبَهُ، وهذا ممَّا جاءَ علَى فَعَلْتُهُ فَفَعَلَ) انتهى.
وقالَ ابنُ سيدَه في «المحكم» (6/ 453): (وكَسَبْتُ الرَّجلَ خَيْرًا، وأكْسَبَهُ إيَّاهُ [كذا، ولعلَّه: وأَكْسَبْتُهُ إيَّاه]، والأُولَى أعلَى، قالَ:
يُعاتبُني في الدَّيْنِ قَوْمي وإنَّما * دُيونِيَ في أشياءَ تَكْسِبُهُمْ حَمْدَا
ويُروى: «تُكْسِبُهُمْ») انتهى.
وجاء في «ديوانِ أبي نُواس» بروايةِ الصُّوليِّ (ص101):
(وما شَرَّفَتْني كُنْيَةٌ عَرَبيَّةٌ * ولا كَسَبَتْني لا سَناءً ولا فَخْرا
ويُروَى: «ولا أَكْسَبَتْني»، وهو خطأٌ، والصَّوابُ: «كَسَبَتْني»، يُقالُ: «كَسَبْتُهُ مالًا»، ولا يُقالُ: «أكْسَبْتُهُ») انتهى.
وقولُ أبي نُواسٍ: «كَسَبَتْني» لا «أَكْسَبَتْني» أشبهُ به؛ فقد كانَ مِنَ الفُصحاءِ. قالَ ابنُ جنِّي في «الفَسْرِ» (1/ 953): (وقالَ أبو نُوَاسٍ، وإنَّه لفصيحٌ عندي)، وقالَ في موضعٍ آخَر من «الفَسْرِ» (2/ 424) أيضًا: (وقد قالَ أبو نُوَاسٍ، وإن لم يكنْ قديمًا، فقد كانَ فصيحًا) انتهى.
وقال الصُّوليُّ في «شرح ديوان أبي تمَّام» (ص229): (يُقالُ: كَسَبْتُه المالَ، وهو المختارُ، وأبو محلِّمٍ لا يُجيزُ غيرَ هذا. وغيرُه من العلماء يقولُ: كَسَبْتُه وأَكْسَبْتُه) انتهى.
وقالَ البحتريُّ:
وأَكْسَبْنَني سُخْطَ امْرِئٍ بِتُّ مَوْهِنًا * أرَى سُخْطَهُ ليلًا معَ اللَّيْلِ مُظْلِما
قالَ أبو العلاءِ المعرِّيُّ في «عبث الوليد» (ص461): (استعملَ «أَكْسَبْتني»، وإنَّما أخذَه من أبي تمَّامٍ في مثلِ قولِه:
* أَكْسَبَهُ البَأْوَ غَيْرَ مُكْتَسِبِهْ *
والمتقدِّمونَ من أهلِ اللُّغةِ يُنكِرونَ «أَكْسَبْتُهُ مالًا»، ويحكونَ: كَسَبَ الرَّجُلُ، وكَسَبْتُهُ أنا. وقد حُكِيَ أنَّ ابنَ الأعرابيِّ رَوَى: «كَسَبْتُهُ، وأكْسَبَني». وهذا البيتُ رُبَّما رُوِيَ بالهمزةِ:
فأَكْسَبَني حَمْدًا وأكْسَبْتُهُ قِرًى * وأَرْخِصْ بحَمْدٍ كانَ كاسِبَهُ أَكْلُ
والقياسُ يُسَوِّغُ «أَكْسَبَهُ»؛ لأنَّ الهمزةَ مِمَّا يُعدَّى به الفِعْلُ) انتهى.
وقال الزَّمخشريُّ في «الكشَّاف» (2/ 288): (...كما أنَّ «كَسَبْتُه مالًا» أفصحُ مِن «أَكْسَبْتُهُ». والمرادُ بالفصاحةِ أنَّه علَى ألسنةِ الفُصحاءِ من العربِ الموثوقِ بعربيَّتِهم أَدْوَرُ، وهم له أكثرُ استعمالًا) انتهى.
وقال النَّوويُّ في «شرح صحيح مسلم» (2/ 201): (وأمَّا قولُها [أي: خديجة -رضي الله عنها-]: (وتَكْسِبُ الـمعدومَ): فهو بفتحِ التَّاء، هذا هو الصَّحيحُ المشهورُ، ونقَله القاضي عياض عن رواية الأكثرين، قال: ورواه بعضُهم بضمِّها. قال أبو العبَّاس ثعلبٌ، وأبو سليمانَ الخطَّابيُّ، وجماعاتٌ من أهل اللُّغةِ: يُقال: كَسَبْتُ الرَّجُلَ مالًا، وأَكْسَبْتُهُ مالًا، لُغتانِ أفصُحهما باتِّفاقِهم: كَسَبْتُه، بحذفِ الألفِ) انتهى.


السبت، 27 يونيو 2020

مقتطفات من مقالة «البيان والطريق المهجور» للطناحي



هذه مقتطفاتٌ عنونتُها واخترتُها مِن مقالتين متتاليين نشَرهما الدكتور محمود الطناحي في مجلَّة الهلال (مارس- إبريل 1995) بعنوان «البيان.. والطريق المهجور»، وهما في القسمِ الأوَّلِ من «مقالاته» [طبعة دار البشائر الإسلاميَّة].

نِعمةُ البَيانِ
استهلَّ الطناحيُّ -رحمه الله- مقالتَهُ بقولِه: (مِنْ أجلِّ نِعَمِ اللهِ تعالَى علَى عبادِهِ: نِعمة البَيان، وقد امتَنَّ اللهُ علَى عبادِهِ بهذه النِّعمةِ، فذكَرها في أشرفِ سياقٍ، فقالَ تقدَّسَتْ أسماؤُه: ﴿الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ القُرْآنَ . خَلَقَ الإِنسَانَ . عَلَّمَهُ البَيَانَ﴾).

المرادُ بالبَيانِ
ثُمَّ أوضحَ أنَّ المرادَ بالبَيانِ هو: الإحسان في تأدية المعاني، وليس هُو مجرَّد الكشف عمَّا في النَّفسِ. ونقلَ عن الرُّمَّانيِّ قولَهُ -في كتابه «النكت في إعجاز القرآن»-: (وليس يحسن أن يُطلقَ اسم بيان علَى ما قبُحَ من الكلام؛ لأنَّ اللهَ قد مَدَحَ البيان، واعتدَّ به في أياديه الجِسام؛ قال: ﴿الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ القُرْآنَ . خَلَقَ الإِنسَانَ . عَلَّمَهُ البَيَانَ﴾؛ ولكنْ: إذا قُيِّدَ بما يدلُّ علَى أنَّه يعني به إفهام المُراد؛ جازَ).


اللُّغة العربيَّةُ مُعينةٌ علَى حُسْنِ البَيَانِ
واللُّغةُ العربيَّةُ مُعينةٌ علَى حُسْنِ البَيانِ؛ يقولُ الطناحيُّ: (ونحنُ -أمَّةَ العربِ- أمَّةُ بيان وفصاحة، ولُغتنا مُعينةٌ علَى ذلك؛ بَما أُودِعَ فيها مِن خصائص شعريَّة في الحروف والأبنية والتَّراكيب، ثمَّ هذه الثَّروة الهائلة من الأسماء والأفعال، والمترادف والمشترك والأضداد، ولغُتنا مُعينة -أيضًا- على البيان والفصاحة؛ بهذه القوانين الرحبة الواسعة من الحقيقة والمجاز، والسَّماحة في تبادل وظائف الأبنية؛ كالَّذي يُقال من مجيء فعيل بمعنى فاعل وبمعنى مفعول وبمعنى مُفْعِل، وتبادل وظائف الإفراد والتَّثنية والجمع، ووقوع بعضها موقع بعض، والتَّساهل في التَّعبير عن الأزمنة؛ كالتَّعبير عن الماضي بالمستقبل، وبالمستقبل عن الماضي، إذا اقترن بالفعل ما يدلُّ على زمانه، ووقوع بعض حروف الجرِّ مكان بعض، وتذكير ما حقُّه التَّأنيث، وتأنيث ما حقُّه التَّذكير، والحَمْل على المعنى، والحَمْل على اللَّفظ، وحريَّة التَّعامل مع الضَّمائر غيبة وحضورًا فيما يُعرف بالالتفات، والتَّعويل على القرائن والسِّياق في تخليص الكلام من كثير من الفضول والزَّوائد، وهو باب الحذف؛ الَّذي يجعله ابن جنِّي من باب «شجاعة العربية»، وهو تعبير عجيب؛ انظره في كتابه الفذّ: الخصائص 2/360، إلى سائر قوانين اللُّغة وأعرافها، حتَّى علم النَّحو الَّذي يُظنُّ به العسر والتشدُّد، ولو تأمَّلتَه حقَّ التَّأمُّلِ؛ لوجدتَّ فيه الكثير من الرُّخَص والإباحة، علَى ما قاله الأصمعيُّ: «مَنْ عَرَفَ كلامَ العَرَبِ لَمْ يَكَدْ يُلَحِّنُ أحَدًا»).

أوَّل مَنْ أصَّلَ فَنَّ البيانِ
يقولُ -رحمه الله-: (ولعلَّ أوَّل من أصَّلَ هذا الفنَّ هو أديب العربيَّة الكبير: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، حين صنعَ كتابَه الَّذي جَعلَ عنوانَه دالاًّ بصريح اللَّفظِ علَى الغاية الَّتي تغيَّاها منه، وكان كتابُ الجاحظ هذا مع كتاب مُعاصره والرَّاوي عنه: أبي محمَّد عبد الله بن مسلم المعروف بابن قُتيبة «عيون الأخبار» هما الأساس الأوَّل في إرساء قواعد هذا الفنّ «البيان»، بذكر الأدوات الموصلة إليه، والمعينة عليه، من ذكر كلام العرب وخطبها وشعرها ومحاوراتها وأجوبتها المُسكتة).

توالي التَّأليف في الأدب
ثُمَّ يقولُ: (وتوالت الكتب في هذا الطريق؛ ككتب الأمالي والمجالس والمختارات والحماسات، مع عناية ظاهرة باللُّغة والغريب، تمثَّلَتْ في أمالي أبي علي القالي، ومجالس أبي العبَّاس ثعلب.
ولم تكن كتب هذا اللَّون من التَّأليف قاصرةً على الأُدباء واللُّغويِّين فقط؛ بل دخل فيها الحفَّاظ والفقهاء -أيضًا-؛ كالَّذي رأيناه من كتاب «بهجة المَجالس وأُنس المُجالس وشحذ الذهن والهاجس» لفقيه الأندلس الحافظ المحدِّث أبي عمر بن عبد البرِّ القرطبيّ، صاحب كتاب «التَّمهيد لما في الموطَّأ من المعاني والأسانيد»، وصاحب «الاستيعاب في طبقات الأصحاب». وكتابه هذا «بهجة المجالس» من المجاميع الأدبيَّة العظيمة، ويقول فيه ابن سعيد -بعد ذكر مصنَّفاته في الفقه والحديث والتراجم-: (مع أنه في الأدب فارس، وكفاك دليلاً على ذلك كتاب «بهجة المجالس»). الـمُعرب في حلى الـمَغرب 2/408. وهذا ابن عبد البرّ الفقيه المحدِّث هو الّذي جمع ديوان أبي العتاهية، وعن نسخته كانت نشرة الدكتور شكري فيصل -رحمه الله-.
وهكذا كان الأدب مشرعًا يرده النَّاس جميعًا، وغبرت أجيال ونشأت أجيال، حتَّى جاء ابن خلدون في القرن التاسع ليخبرنا أنَّ كتب الأدب هي: «أدب الكاتب» لابن قتيبة، و«الكامل» للمبرِّد، و«البيان والتبيين» للجاحظ، و«الأمالي» -أو «النَّوادر»- لأبي علي القالي، ويُريد ابن خلدون أن يقول: إنَّ هذه الأُصول هي مكوِّنات الأديب).

رِجالُ البَعْثِ والإحياءِ في العَصْرِ الحَديثِ
يقولُ الطناحيُّ: (وطُوِيَتْ أيَّام ونُشِرَتْ أيَّام، حتَّى كان العصر الحديث، وجاء رجال البعث والإحياء، هؤلاء الَّذين ردُّوا النَّاس إلى أصولهم الأدبيَّة، وكشفوا عن تلك المناجم الغنيَّة الضَّاربة في التَّاريخ بعروقِها؛ فكان الشَّاعر محمود سامي البارودي و«مختاراته»، والشيخ حسين المرصفي و«الوسيلة الأدبيَّة»، والشَّيخ سيد بن علي المرصفي و«رغبة الآمل من شرح كتاب الكامل»، وما قرأه على تلاميذه من «شرح حماسة أبي تمَّام»، وبعدهما كان الشَّيخ حمزة فتح الله وكتابه الجيِّد «المواهب الفتحيَّة»؛ فكانت هذه الآثار كلُّها زادًا ومددًا للجيل التَّالي).

الرَّافعيّ .. والمنفلوطيّ
ثُمَّ يقولُ: (وفيما يتَّصِلُ بالبيانِ: كان هناك اسمان كبيران: مصطفى صادق الرَّافعي، ومصطفى لطفي المنفلوطيّ.
وقد شقَّ علينا الرَّافعي في أوَّل الأمرِ.
ووجدنا في المنفلوطيِّ واحةً خصبة عامرةً بالنَّدَى والأزاهير، فأيُّ جنَّةٍ فتحَها لنا هذا المنفلوطيُّ في ذلك الزَّمان؟ وكم دموع أراقها، وكم قلوب خفقَتْ على بيانِه الحُلو الآسرِ؛ الَّذي انسابَ في «العبرات» و«الشاعر أوسيرانو دي برجراك» و«الفضيلة» و«ماجدولين»، ولئن كنَّا قد فرغنا من المنفلوطيِّ بعد حينٍ؛ فإنَّ أثره الضَّخم الَّذي لا يُنسَى: أنَّه حبَّب إلينا القراءة جملة؛ فإنَّ هذه الليالي الَّتي قضيناها مع بيانِه المعجب الأخَّاذ لم تضعْ سُدًى؛ لأنَّها وثَّقَتْ صلاتِنا بالأدبِ عامَّة، وبالبيان خاصَّة.
ومِن عَجَبٍ أنَّ المنفلوطيَّ هو الَّذي رَدَّنا إلى الرَّافعيِّ، وعند هذا الرَّافعيِّ وجدنا دنيا أُخرَى حافلة بالغرائب والعجائب؛ لكنَّ صورة الرَّافعيِّ لم تأخذ حجمَها الحقيقيَّ عندي إلاَّ بعد أن اتَّصلتُ بتراث الآباء والأجداد، فيما قرأتُ وفيما نسختُ وفيما حقَّقْتُ، وأيضًا: حين توثَّقَتْ علاقتي بصاحبِه ووارثِ أدبِه وعلمِه: أبي فهر محمود محمد شاكر؛ فعرفتُ أنَّ هذا من ذاك، وأنَّها ذُرِّيَّةٌ بعضها مِن بعض، وإن كنتُ أرَى أنَّ بيانَ أبي فهر لا يُشبهه بيان، وأنَّ عِلمه لا يقرن به عِلْم).

أسباب تردِّي الكتابةِ، ومُجافاةِ حُسْنِ البَيانِ، وجمال العِبارة
ذَكَرَ الطناحيُّ خمسةَ أسبابٍ:
1- ذهاب الكبار بالموتِ أو بالملل أو بالمصانعة.
2- قلَّة المحصول اللُّغوي عند الكُتَّابِ.
3- تسويغ العجز باصطناع نظريَّات تمهِّد له وتُسانِدُه.
4- السُّخريَّة من البيانِ والإزراء بقائله.
5- الكسل والإخلاد إلى الرَّاحةِ.
وفصَّلَ القولَ فيها.

سبب قلَّة المحصول اللُّغويِّ
بيَّنَ -رحمه الله- سببَ قلَّة المحصول اللُّغوي قائلاً: (وليس يخفَى أنَّ قلَّة المحصول اللُّغويِّ والعجز عن التَّصرُّف في الكلامِ إنَّما يرجع إلى قلَّة القراءة وضعف الزَّاد، فالأديب لكي يكتب أدبًا عاليًا جميلاً لا بُدَّ أن يكونَ علَى صلةٍ لا تنقطع بالقراءةِ، وأن يجعل من يومِه نصيبًا مفروضًا للمُراجعة والاستزادة، فالإبداع -كما يُقال في هذه الأيَّام- لا بُدَّ له من مددٍ، والمددُ ليس له إلاَّ طريقٌ واحدٌ؛ هو القراءة الرَّشيدة المستمرَّة، ثُمَّ التَّأمُّل).

مُغالَطاتٌ، وخِداعٌ
يقولُ -رحمه اللهُ-: (وفي ذلك الطَّريق: جاءت مغالطاتٌ شتَّى، وجاء خداعٌ كثيرٌ، فقيل -مثلاً-: إنَّ العناية بتحسين العبارة أصباغٌ وزخارفٌ، وأنَّها تكون علَى حساب المعاني والأفكار، وأنَّ التَّفكير والموضوعيَّة يأبَيان الزَّخارفَ والأصباغَ، وأنَّ غايتهما الحقائق ليس غير، وقد تَبِعَ ذلك التَّفرقة بين الأسلوب الأدبيِّ والأسلوب العلميِّ، تفرقة تُفضي في نهاية الأمر إلى التَّهوين من الأسلوب الأدبيِّ، ووصف من يُحسن البيان بأنَّ كلامه «كلام إنشاء»، وقولهم في سياق المدح: إنَّ فلانًا يكتب كما يتكلَّم.
وقيلَ -أيضًا-: لا ينبغي التَّعامل بالكلام المأثورِ؛ حتَّى لا يجد القارئ نفسه يتعامَل في المنزل والشَّارع بلُغةٍ، وفي الكتاب بلُغة الشِّعر الجاهليِّ، وأنَّنا يجب أن نصطنعَ لغةً تُقرِّب الفجوة بين الشَّارعِ والكتابِ. وهذا كلامٌ غيرُ صحيحٍ -فضلاً عمَّا فيه من لعب وخِداع-؛ لأنَّ هذه الفجوة لا بُدَّ أن تكون قائمةً وثابتةً؛ ففي كُلِّ لغات الدُّنيا فرقٌ بين لغة العامَّة ولغة الخاصَّة...
وقيلَ -أيضًا-: إنَّ أحسن الأساليب هو ما لايحتاج معه القارئُ إلى مُراجعة مُعجمٍ، وهذا مما يفتتنُ به الشَّبابُ المبتدئون، والكلام مقلوب، والقضيَّة معكوسةٌ، فإنَّنا إذا لم نُراجِعْ لبعض ما نكتب شيئًا من المعاجم؛ فإنَّنا نكون قد وقعنا في حمأة العاميَّةِ والكلام السُّوقيِّ، واستوَى في ذلك عالمُنا وجاهلُنا. ولماذا كانت المعاجمُ، ولأيِّ غايةٍ وُضِعَتْ؟).

المحسِّنات اللَّفظيَّة وحُسْن البَيان
يقولُ الطناحيُّ: (ولقد كان من أشنع الخطإِ هنا وأغلظِه: الخَلْط بين المحسِّنات اللَّفظية وتحسين العبارة، وبينهما فرقٌ لا يخفَى، فالمحسِّنات اللَّفظيَّة هي أنماط تعبيريَّة محصورة في قواعد محدَّدة بشواهد معيَّنة، أمَّا تحسين العبارة -الَّذي هو البيان-؛ فمجاله واسعٌ رحبٌ، وهو قائم علَى أسباب كثيرة، من الغِنَى اللُّغويِّ، واختيار الأبنية الشَّاعرة المتجانسة، من الأسماء والأفعال والأدوات، وإحكام بناء الجُمَل وحُسْن تنسيقها، وإشاعة الأُلْفة بينها، وقُدرة الكاتب في ذلك كلِّه علَى أن يُنشئَ علاقة أُنسٍ بين قارئه وبين ما يكتب، إنَّ الكاتب المُبين يجعلُنا نحبُّ بعضَ الكلمات ونعشقُها، ترَى هذا في أسلوب الجاحظ، وأبي حيَّان التَّوحيديِّ (إذا نسي مشاكله النفسيَّة)، ومصطفى صادق الرَّافعي، ومحمود محمد شاكر.
وحُسن البيان لا يمنع من الإلمامِ بهذه المحسِّنات اللّفظيَّة إذا جرَتْ علَى قَلَمِ الكاتبِ في حاقِّ مواضعِها، غير متكلَّفة ولا مستكرَهة.
علَى أنَّ هذه المحسِّنات اللفظيَّة ليست سيِّئةَ السُّمعة، على نحو ما يُلقيه بعضُ أساتذة البلاغة على طَلَبتهم، وأنَّها قائمة على التَّكلُّف والتَّزييف، إنَّ المحسِّنات اللَّفظيَّة باب ضخمٌ من أبواب الجمالِ في البيان العربيِّ، وما يجيءُ منها مُتكلَّفًا يُعابُ ويُذَمُّ، كما يُعابُ التَّكلُّفُ في كُلِّ شيءٍ ويُذَمُّ، وكيف تُعابُ المحسِّنات اللَّفظيَّة جملة، وقد جاء منها في كلام ربِّنا -عزَّ وجلَّ- وكلام نبيِّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- وكلام العرب وأشعارها قَدر صالحٌ، ألم تقرأ قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: 26]، وقوله -تباركت أسماؤه-: ﴿وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: 22]، ثمَّ انظر: «المجازات النَّبويَّة» للشَّريف الرَّضيِّ، وشعر أبي تمَّام علَى وجه الخصوص).

سخريَّة بعض أساتذة العربيَّة من البيانِ
ذَكَرَ الطّناحيُّ -رحمه الله- بعضَ تجاربه الخاصَّة؛ يقولُ: (لي صديقان أحدهما طبيب، والآخر صيدليّ، يُحبَّان الأدبَ حُبًّا جمًّا، ويحرصان علَى قراءة ما أكتب، ويطربان جدًّا لما أجتهدُ فيه من ضُروب البيان وتحسين العبارة، وعلى الجانب الآخر يقرأُ بعض زملائي من أساتذة العربيَّة هذا الَّذي أكتب، فيداعبونني بمثل قولهم: إيه الكلام ده؟ إيه الأساليب دي؟ ألفاظك كلها كلاكيع! وأعلم يقينًا أنَّه لولا المحبَّة لاستحالت هذه الدّعابة سخريَّةً لاذعةً، وإزراءً شديدًا).
ثمَّ يقول: (وقد انتقلت سخريَّة الأساتذة إلى تلاميذهم من معلِّمي العربيَّة في مدارسنا الآنَ: سأل مدرِّس اللُّغة العربيَّة التَّلاميذَ في الثانويَّة العامَّة عن مُرادف لعبارة «رغد العَيْش»؛ فأجاب ابْنِي: «بُلَهْنِية»، فضَحِكَ المدرِّس ضحكةً عاليةً، وسخر منه قائلاً: «إيه يا خويه؟»، وحمدتُّ اللهَ أن وقف المدرِّسُ العابث بالسخريَّة عند هذا الحدِّ، فإنَّ لهذا التركيب الَّذي نطق به ذلك المدرِّس تكملةً سوقيَّة يعرفها أهل السُّخريَّة، ولعلَّه قالها وكتمَها ابني عنِّي).

البيان وأبواب النَّحو
يقولُ الطناحيُّ -رحمه الله-: (ويبقَى أنْ أقولَ: إنَّ إهمالَ البيانِ والتَّأنُّق في الكلام وتحسين العبارة قد أدَّى إلى هَجْرِ كثيرٍ من أبواب النَّحو، وقلَّة استعمال بعضها في كتابات الكاتبين الآن؛ مثل البَدَل، وبخاصَّة: بدل البعض، وبدل الاشتمال، و«كان» التَّامَّة في مثل قوله تعالَى: ﴿وإن كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: 280]، و«كان» الزَّائدة في نحو: ما كان أغناك عن هذا...
واسم الفاعل واسم المفعول العاملان في التَّركيب، والمصدر الميميّ، والمصدر المؤول، وبعض جموع التَّكسير الفصيحة، وزيادة الباء في خبر «ليس» وفي خبر «ما»، مع كثرة ذلك في القرآن وكلام الفصحاء...
وممَّا أُهْمِلَ -أيضًا- المفعول المطلق المؤكِّد للفعل، فأنت لا تكاد تقرأ لكاتب يقول: كلَّمته كلامًا، من غير أن يُضيفَ إليه وصفًا، فيقول: كلامًا شديدًا ونحوه، مع مجيء ذلك بكثرة في الفصيح، ومنه قوله تعالى: ﴿رَأَيْتَ المُنافِقينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدودًا﴾...
ومن ذلك: باب تعدِّي الأفعال بنفسِها أو بحرف الجَرِّ، مثل: شكرتُه وشكرتُ له، ونصحتُه ونصحتُ له، فلا يكاد الكتَّاب يستعملون إلاَّ الأوَّل. . . إلى أبواب نحويَّة أُخْرَى أُهْمِلَتْ وعُطِّلَتْ.
علَى أنَّ من أبواب النَّحو الَّتي كادَتْ تختفي -الآنَ- تمامًا: باب التَّوكيد اللَّفظيّ -وهو إعادة الكلمة بلفظها-، والاستغناء عنه بالتَّوكيد المعنويّ، وهو التَّوكيد بالنَّفس أو بالعين أو بكلّ وجميع، مع أنَّ التَّوكيدَ اللَّفْظيَّ أوسع مجالاً من التَّوكيد المعنويِّ...).

ما في الصِّحابِ أخُو وَجْدٍ نُطارِحُهُ!
ثُمَّ يختمُ الطَّناحيُّ -رحمه الله- مقالتَه النَّافعةَ بقولِهِ: (وبعد: فإنِّي أخشَى أن تكون هذه الحِقْبة الَّتي نعيشها هي أسوأ الحِقَب الَّتي مرَّتْ بها العربيَّة والبيان العربيُّ. فإنَّ اللُّغات تنتعش أو تذوي باحترام أهلِها لها وممارستهم لها، وما أظنُّ لغتنا العربيَّة فيما يسمُّونه -خطأً وتسرعًا- بعصور الانحطاط الأدبيّ -وهو العصر العثمانيّ- لا أظنُّها في تلك الأيَّام إلاَّ أحسن حالاً، وأجمل بيانًا ممَّا هي عليه الآنَ.
والرِّثاء كلّ الرِّثاء لشبابِ هذه الأيَّام الَّذي يُخدعون عن تاريخهم وعن لغتهم فيما يقرأون وفيما يسمعون.
أمَّا أنا وأنت ومن يجري معنا في حُبِّ العربيَّة والبيان العربيِّ؛ فليس لنا إلاَّ الصَّبر نعتصم به ونفزع إليه، حتَّى يكشف اللهُ الكُرْبةَ، ويزيل الغُمَّة، ويردّ الغربة:
ما في الصِّحابِ أخو وجدٍ نطارِحُهُ * حديث نجدٍ ولا صَبٌّ نجاريه).