الخميس، 9 يوليو 2020

الوقوف على آخر صدر البيت عارض والمراد به الوصل



قالَ ابنُ جنّي في الجزء الثاني من «الخاطريَّات» (ص199) [رسالة جامعية]:
(... العرب في الإنشادِ تقفُ علَى آخرِ المصراعِ الأوَّل -وإن لم يكن قافيةً أيضًا- وقوفًا تُطيلُه، وتتمكَّثُ فيه، كما تقفُ عندَ انتهائِها إلى آخرِ البيتِ؛ ألا تَرَى ما ورَدَ عنهم في الخَبَرِ عن إنشادِ ابن الرِّقاعِ داليَّتَهُ:
* عَرَفَ الدِّيارَ توهُّمًا فاعتادَها *
قالَ الفرزدقُ في هذه الحكايةِ: فلمَّا وصلَ إلى قولِه:
* تُزْجي أَغَنَّ كأنَّ إبرةَ رَوْقِهِ *
وقفَ كالمستريحِ، فقلتُ لجريرٍ مُسِرًّا إليه: ما تراه يستلبُ بهذا شبهًا؟ فقالَ
* قَلَمٌ أصابَ من الدَّواةِ مِدادَها *
فقالَ عديٌّ كذلك!
أفلا ترَى ما جرَى بين الرَّجلَيْن في هذا، لم يخرجْ إلى الوجودِ إلَّا في زمانٍ، وهذا يُقوّي العلم بطول التلبُّث والاستراحة بين المصراعين) انتهى.

ثمَّ ذكرَ أنَّ هذا الوقفَ عارِضٌ، وأنَّ المرادَ بالوقوفِ علَى آخرِ المصراعِ الأوَّل الوصل، قالَ –رحِمَه اللهُ-:
(والحكايةُ في البيتِ إنَّما هي: (إبرة روقهي) بالياءِ، وكذلك جميعُ الإنشادات إذا وقفتَ علَى آخر المصراعِ الأوَّل، وعرض فيه نحو هذا؛ أجري على ما ذكرنا؛ ألا ترَى إلى قولِه:
* كأنَّ دماءَ الهاديات بنَحْرهي *
وقوله:
* كأنَّ ثَبيرًا في عرانين وَبْلِهي *
وكذلك قوله أيضًا:
* وإنَّ شفائي عَبرةٌ مُهَراقَةٌ *
فوقوفُه بالتَّنوين يدلُّ على إرادته الوصل؛ لأنَّه من عوارضِه ولواحقِه، وليس هذا الموضع بآخر البيت فيُنسَب إلَى أنَّه تنوين الإنشاد الَّذي يراه بعض العرب إذا وقفَ على القافية؛ نحو قوله:
* سُقيتِ الغيثَ أيَّتها الخِيامُنْ *
وقوله:
* من طَلَلٍ كالأتحميِّ أنْهَجَنْ *
وذلك أنَّ (مهراقةٌ) ليست بقافية، فيكون التَّنوين الموقوف عليها تنوين الإنشاد للقوافي، وإذا لم يكن إيَّاه؛ علمت أنَّه تنوين الصَّرف، وإذا كانه؛ دلَّ ذلك على أنَّه يُراد بذلك الوصل لا الوقف، وإذا قويتِ الدّلالةُ علَى ذلك؛ كانَ الوقفُ العارضُ هناك في حال الإنشاد ملغًى غيرَ معتدٍّ؛ لقيام الدّلالةِ من حرف اللِّين، ومن التَّنوين علَى إرادة الوصل بهما دونَ الوقفِ) انتهى.

وقال ابنُ جنّي أيضًا في «الخصائص» (1/ 70):
( فإن قلتَ: فقد قالَ:
* أعِنِّي على برقٍ أريك وميضَهو *
فوقف بالواوِ، وليست اللَّفظة قافيةً، وقد قدَّمْت أنَّ هذه المَدَّةَ مُستهلَكةٌ في حالِ الوَقفِ. قيلَ: هذه اللَّفظةُ وإن لم تكنْ قافيةً، فيكونَ البيتُ بها مقفًّى أو مصرَّعًا؛ فإنَّ العربَ قد تقفُ علَى العَرُوضِ نحوًا من وُقوفها على الضَّربِ، أعني مخالفة ذلك لوقف الكلامِ المنثور غير الموزون؛ ألا ترَى إلى قولِه أيضًا:
* فأضحَى يسحُّ الماءَ حولَ كُتَيْفَتِنْ *
فوقف بالتَّنوين، خلافًا علَى الوقفِ في غير الشِّعر.
فإن قلتَ: فأقصى حالٍ قوله: (كُتَيْفَتنْ) -إذ ليست قافيةً- أن تُجرى مجرَى القافيةِ في الوقف عليها، وأنت ترى الرُّواةَ أكثرَهم على إطلاقِ هذه القصيدة ونحوها بحرف اللِّين للوَصْلِ؛ نحو قوله: (ومنزلي، وحَوْملي، وشَمْألي، ومحملي)، فقوله: (كُتَيفتنْ) ليس على وقفِ الكلامِ، ولا وقف القافيةِ. قيلَ: الأمر على ما ذكرت من خلافِه له، غيرَ أنَّ هذا أيضًا أمرٌ يخصُّ المنظومَ دون المنثورِ؛ لاستمرارِ ذلك عنهم؛ ألا ترَى إلى قولِه:
أنَّى اهتديتِ لتسليمٍ علَى دِمَنِنْ * بالغَمْر غيَّرهُنَّ الأعصرُ الأُوَلُو
وقوله:
كأنَّ حُدُوج المالكيَّة غُدْوَتَنْ * خلايا سَفِين بالنَّواصف من دَدِي
وقوله:
فمضى وقدَّمها وكانت عادتَنْ * منه إذا هيَ عرَّدَتْ إقدامُها
وقوله:
فواللهِ لا أنسَى قتيلًا رُزئتهو * بجانب قَوْسَى ما مشيتُ على الأرضِي
وفيها:
ولم أدرِ من ألقى عليه رداءهو * علَى أنَّه قد سُلَّ عن ماجدٍ مَحْضِي
وأمثاله كثيرٌ، كلُّ ذلك الوقوفُ على عَرُوضِه مخالفٌ للوقوف على ضربِه، ومخالفٌ أيضًا لوقوف الكلام غير الشِّعر.
ولم يذكرْ أحدٌ من أصحابِنا هذا الموضعَ في علم القوافي، وقد كانَ يجبُ أن يُذكرَ، ولا يُهمَل) انتهى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق