الاثنين، 30 سبتمبر 2019

درس في وجوه (أَنْ)


قال سيبويه -رحمه الله- في «الكتاب» (3/ 151):
(فـ(أَنْ) [مفتوحةً] تكون على وجوه:
فأحدُها: أنْ تكونَ فيه (أنْ) وما تعمل فيه من الأفعال بمنزلةِ مصادرها.
والآخَر: أنْ تكون فيه بمنزلةِ (أيْ).
ووجهٌ آخَر: تكون فيه لغوًا.
ووجهٌ آخر: هي فيه مُخفَّفة من الثَّقيلة) انتهى.

1- (أن) المصدريَّة النَّاصبة للمضارع:
سُمِّيَتْ مَصْدَرِيَّةً؛ لأنَّها تُؤوَّلُ مع ما بعدها بمصدرٍ؛ فَتُسْبَكُ مَعَ الجملة الفعليَّة -المضارعيَّة وغير المضارِعيَّة- الَّتي تدخل عليها سبكًا خاصًّا يُؤدِّي إلى إيجادِ مصدرٍ مُؤوَّل يُغني عن (أنْ) وما دَخَلَتْ عليه.
وتَقَعُ في موضعين:
أحدهما: في الابتداء، فتكون في موضع رفعٍ، نحو قوله تعالى: ﴿وَأَن تَصُومُوا خَيرٌ لَّكُمْ﴾.
فالمصدر المؤوَّل مِن (أنْ) والفِعْل: مبتدأٌ مرفوعٌ، والتقدير: وصَوْمُكُم خيرٌ لَكُمْ.
ونحو قوله تعالى: ﴿وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾.
الموضع الثَّاني: أنْ تقَعَ بعد لفظٍ دالٍّ على معنى غير اليقين، فتكون:
- في موضع رَفْعٍ، نحو قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأنِ لِلَّذينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُم﴾.
فالمصدر المؤوَّل من (أنْ) والفعل: فاعل مرفوع.
- وفي موضع نصبٍ، نحو قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا القُرْآنُ أَن يُفْتَرَى﴾.
فالمصدر المؤوَّل من (أنْ) والفعل: خبر (كان) منصوب.
- وفي موضع جرٍّ، نحو قوله تعالى: ﴿أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا﴾.
فالمصدر المؤوَّل من (أنْ) والفعل: مضاف إليه مجرور.
و(أنْ) هذه موصولٌ حرفيٌّ، وتُوصَلُ بالفعلِ المتصرِّف:
مُضارعًا كانَ -كما مرَّ-.
أو ماضيًا، نحو قوله تعالى: ﴿لَوْلَا أَن مَّنَّ اللهُ عَلَيْنَا﴾.
أو أمرًا، كحكاية سيبويه: (كَتَبتُ إليه بِأنْ قُمْ).
وإذا دَخَلَتْ (أنْ) على المضارِعِ؛ نَصَبَتْه وجوبًا، وخلَّصَتْ زَمَنه للاستقبالِ.
ولأصالتِها في النَّصب؛ تَعمل ظاهرةً ومُضمرةً، بخلافِ بقية النَّواصب؛ فلا تعمل إلَّا ظاهرةً.

2- (أن) المخفَّفة من الثَّقيلةِ:
تُخفَّفُ (أنَّ) المفتوحة، فتبقى على ما كانَ لها من العَمَل، فتنصِب الاسم، وترفع الخبر، ولكنْ يجبُ في اسمها أن يكونَ ضميرًا محذوفًا، ويجبُ في خبرها أن يكون جملةً، وذلك نحو: (عَلِمتُ أنْ زيدٌ قائمٌ)، ف (أنْ) مُخفَّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشَّأنِ، وهو محذوف، والتَّقدير: (أنْهُ)، و(زيدٌ قائمٌ) جملة اسميَّة في محلّ رفع خبر (أنْ).
ورُبَّما ثَبَتَ اسمُها في ضرورةِ الشِّعر، ولَمْ يُحذَفْ، فيأتي خبرها حينئذٍ مُفردًا، وجملةً، وقدِ اجتمعا في قولِ الشَّاعر:
بِأنْكَ رَبيعٌ وغَيْثٌ مَّرِيعٌ * وأنْكَ هناكَ تكونُ الثِّمالا
وإذا وَقَع خبرها جملةً اسميَّة؛ لَمْ تَحْتَجْ إلى فاصلٍ، نحو قوله تعالى: ﴿وآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وإنْ وَقَع جملةً فعليَّةً فِعْلُها جامدٌ أو دُعاء؛ لَمْ تَحْتَجْ إلى فاصلٍ أيضًا، نحو قوله تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إلَّا مَا سَعى﴾، وقوله تعالى: ﴿والخَامِسَةُ أَنْ غَضِبَ اللهُ عَلَيْها﴾، في قراءة مَنْ قرأ (غَضِبَ) بصيغة الماضي.
ويَجِبُ الفَصْلُ في غير ذلك، والفاصِل أحد أربعة أشياء:
1- (قَدْ)، نحو قوله تعالى: ﴿وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾.
2- حرف التَّنفيس، نحو قوله تعالى: ﴿عَلِمَ أَن سَيكونُ مِنكُم مَّرْضَى﴾.
3- النَّفي بـ(لا)، أو (لَنْ)، أو (لَمْ):
فالأوَّل نحو قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَن لَّا يَرْجِعُ إليْهِم قَوْلًا﴾.
والثَّاني نحو قوله تعالى: ﴿أيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾.
والثَّالث نحو قوله تعالى: ﴿أيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾.
4- (لَوْ)، وَلمْ يذكُرْ هذا الفاصلَ إلَّا قليلٌ من النَّحويِّين، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَن لَّوِ اسْتَقامُوا﴾.
ويندُرُ تركُ الفاصلِ.
و(أن) المخفَّفة من الثَّقيلة ثلاثيَّة الوَضْع، وهي مصدريَّة أيضًا.
وتَقَع بعد فعل اليقين أو ما نُزِّلَ منزلته:
فمثال ما وَقَعَتْ فيه بعد فعل اليقين قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَن لَّا يَرْجِعُ إليْهِم قَوْلًا﴾، وقوله تعالى: ﴿عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى﴾.
ومثال ما نُزِّل منزلةَ اليقين قوله تعالى: ﴿وَحَسِبُوا أَن لَّا تَكونُ فِتْنَةٌ﴾، في مَنْ قرأ برفع (تكون) على إجراء الظَّنِّ مجرى العِلم. ومِنَ القُرَّاء مَنْ قرأ بنصب (تكون) على إجراء الظنِّ على أصله، وعدم تنزيله منزلة العِلْم.
قال ابن هشامٍ -رحمه الله- في «أوضح المسالك»: (والمخَفَّفة من (أنَّ) هي الواقعة بعد عِلْمٍ، نحو: ﴿عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى﴾، ونحو: ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَن لَّا يَرْجِعُ﴾، أو بعد ظنٍّ، نحو: ﴿وَحَسِبُوا أَن لَّا تَكونُ﴾، ويجوز في تالية الظنِّ أنْ تكونَ ناصِبةً، وهو الأرجح؛ ولذلك: أجمعوا عليه في: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا﴾، واختلفوا في: ﴿وَحَسِبُوا أَن لَّا تَكونُ فِتْنَةٌ﴾؛ فقرأه غير أبي عمرٍو والأخَوَيْن بالنَّصبِ) انتهى.
وقال في «شرح قطر النَّدى»: (والحاصلُ أنَّ لـ(أنِ) المصدريَّة باعتبار ما قبلها ثلاث حالات:
إحداها: أنْ يتقدَّم عليها ما يدلُّ على العِلم؛ فهذه مُخفَّفة لا غير...
الثَّانية: أنْ يتقدَّم عليها ظنٌّ، فيجوز أنْ تكونَ مُخفَّفة من الثقيلة... ويجوز أنْ تكونَ ناصبةً، وهو الأرجح في القياس، والأكثر في كلامهم؛ ولهذا أجمعوا على النَّصب في قوله تعالى: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أنْ يتْرَكُوا﴾، واختلفوا في قوله تعالى: ﴿وَحَسِبُوا أَن لَّا تَكُون فِتْنةٌ﴾ فقُرِئَ بالوجهَينِ.
الثَّالثة: أن لا يسبقها علمٌ ولا ظنٌّ؛ فيتعيَّن كونها ناصبةً، كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي﴾) انتهى.

3- (أن) المفسِّرة:
حرفٌ مٌهْملٌ، لا عَمَل له، ولا يتأثَّر بعامل. والغرض منه: إفادة التَّبيين والتَّفسير.
وتقع (أنْ) مُفسِّرةً بشروط:
1- أنْ يتقدَّم عليها جملة.
2- أنْ تكون تلك الجملة فيها معنى القول دون حروفه.
3- أنْ يتأخَّر عنها جُملة أُخرى مُستقلَّة، تتضمَّن معنى الأولى، وتُوضِّح المراد منها.
4- أن لا يدخلَ عليها حرفُ جرٍّ، لا لفظا ولا تقديرًا.
وذلك كقوله تعالى: ﴿فَأوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الفُلْكَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي﴾، وقوله تعالى: ﴿وَانطَلَقَ المَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا﴾، أي: انْطَلَقَتْ ألسِنتُهُم بهذا الكلامِ.

4- (أن) الزَّائدة:
هي الَّتي يتساوى وجودها وعدمها مِن ناحية العمل؛ إذْ لا عملَ لها على الأصحِّ، وإنَّما أثرها معنويٌّ مَحْضٌ؛ هو تقوية المعنَى وتأكيده.
ولها أربعة مواضع:
أحدها -وهو الأكثر-: أنْ تقعَ بعد (لَمَّا) التَّوقيتيَّة، نحو قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَلمَّا أَن جَاءَ البَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ﴾.
والثَّاني: أنْ تقعَ بينَ (لَوْ) وفِعْلِ القسَم، سواءً كانَ فعلُ القَسَم مذكورًا، نحو:
فأُقْسِمُ أَن لَوِ الْتَقَيْنا وأنتُمُ * لَكانَ لَكُمْ يَوْمٌ مِنَ الشَّرِّ مُظْلِمُ
أو متروكًا، نحو:
أَمَا واللهِ أَن لَّوْ كُنتَ حُرًّا * وما بِالحُرِّ أنتَ ولا العَتيقُ
والثَّالث -وهو نادر-: أنْ تَقَعَ بين الكاف ومجرورها، كقوله:
وَيَوْمًا تُوافِينا بِوَجْهٍ مُقَسَّمٍ * كأنْ ظبيةٍ تَعْطُو إلى وارِقِ السَّلَمْ
في رواية من جَرَّ الظَّبية.
والرَّابع: بعد (إذا)، كقوله:
فأمْهَلَه حتَّى إذا أنْ كأنَّهُ * معاطِي يدٍ في لُجَّةِ الماءِ غامِرُ

والله تعالَى أعلم.

المراجع:
- «شرح قطر النَّدى» لابن هشام الأنصاريِّ.
- «شرح شذور الذَّهب» لابن هشام الأنصاريِّ.
- «أوضح المسالك» لابن هشام الأنصاريِّ.
- «مغني اللَّبيب» لابن هشام الأنصاريِّ.
- «شرح ابن عقيل على ألفيَّة ابن مالكٍ».
- «النَّحو الوافي» لعبَّاس حسن.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق