الأربعاء، 4 ديسمبر 2019

قطوف مختارة من كتاب «تحت راية القرآن»


هذه قطوفٌ مختارةٌ من كتاب «تحت راية القرآن» للأستاذ مصطفى صادق الرَّافعي.

( إنَّ العَجْزَ مِطواعٌ، وإنَّ كُلَّ ما يعني أهلَ الحَزْمِ يهمُّ به العاجزُ، ويراهُ سَهْلًا؛ لأنَّ ذلك يُحقِّقُ مَعْنَى عَجْزِه، وما زالَ مَن يعجزُ عن الكتابةِ هو الَّذي يُريدُ أن يصلِحَ لغتَها وأساليبَها، ومَن يعجزُ عن الشِّعْرِ هو الَّذي يقولُ في إصلاحِه أوسعَ القَوْلِ، وهلُمَّ إلَى أن تستوعبَ البابَ كُلَّهُ ).

( فإنَّ الأُمَّةَ لا تَحْيَا إذا ماتَتْ لُغتُها، ولَنْ تَموتَ لُغةُ أُمَّةٍ حيَّةٍ ).

( وأنتَ خبيرٌ بأنَّ تاريخَ العُظَماءِ إذا لَمْ يكُن في كتابتِه ابتسامُ العَظَمَةِ، وبشاشةُ الحياةِ، وأثَرُ الأخلاقِ؛ فإنَّما هُوَ صُوَرٌ ميِّتَةٌ منهم ).

( وقد كانَ العَرَبُ أصحابَ أذهانٍ حديدةٍ، وكانوا لا يكتبونَ؛ فاضطرَّهم ذلك إلى الإبداعِ في ألفاظِهِم، وطيِّ المعاني الكثيرةِ في الألفاظِ القليلةِ، والاكتفاءِ باللمَّحةِ الدَّالَّةِ، والإشارةِ الموجَزةِ، والكِنايةِ الرَّائعةِ، والتَّفَنُّنِ في أساليبِ القَوْلِ، علَى وُجوهٍ شَتَّى، ومَذاهبَ كثيرةٍ، فليسَ يتولَّى هذا البيانَ العربيَّ إلَّا الذِّهنُ الدَّقيقُ، والفِطْنةُ الحادَّةُ، والبصيرةُ النقَّادَةُ، وإلَّا مَن جَرَى مجرَى العَرَبِ أنفسِهم، ينزعُه طبعٌ، أو يجذبُه أصلٌ، فإن لَّم يكن هناك؛ فأبْعَدَهُ اللهُ، والسَّلامُ! ).

( أستاذ الأدَبِ يجبُ أن يكونَ مِن أوسعِ النَّاسِ اطِّلاعًا -لا في الرِّوايات التَّمثيليَّة الفرنسيَّة؛ ولكن: في كُتُبِ الأدَبِ العربيِّ-، وأن يكونَ -علَى اطِّلاعِهِ- من أبلغِ النَّاسِ كتابةً، وأشعرِهم شِعْرًا، وأسماهم خيالًا، وأدقِّهم حِسًّا، وأذكاهم فَهْمًا ).

( العصبيَّة هي دائمًا نِصْفُ الجَهْلِ، وإن كانَتْ في أعلمِ النَّاسِ وأذكاهم، وقديمًا أفسَدَتْ من تاريخِ الأدَبِ العربيِّ أكثرَ مِمَّا أفسدَ الغَلَطُ والجَهْلُ معًا ).

( صاحب العِلْمِ رَجُل، وصاحب الفنِّ رجُلٌ غيرُه، والأصل في العِلْمِ العَقل، والأصل في الفنِّ الغريزة، ودليل العَقْلِ المنطقُ والقِياس، ودليل الغريزةِ الحسُّ والموهبةُ ).

( إنَّ هؤلاء المستشرقينَ أجرأُ النَّاسِ على الكذِبِ، ووَضْعِ النُّصوص المبالغةِ في العبارةِ، متى تعلَّقَ الأمرُ بالإسلامِ، أو بسببٍ يتَّصِلُ به ).

( فلا يحسنُ أن يقولَ المؤرِّخُ في الشِّعْرِ إلَّا إذا كانَ شاعِرًا يُوثَقُ بمَلَكَتِهِ، فإنَّ الحِسَّ والملَكَةَ مِنْ أقوَى أسبابِ الرَّأيِ في مِثْلِ ذلكَ ).

( النَّقد قائمٌ بالملَكَةِ والفَهْمِ، لا بالفَهْمِ وَحْدَهُ ).

( وما مِنْ عالِمٍ في الأرضِ إلَّا وأنتَ واجِدٌ آراءهُ قائمةً بِمجموعِ أخلاقِهِ أكثر مِمَّا هي آتيةٌ مِن صِفاتِهِ العقليَّةِ ).

( فإنَّه يجبُ علَى كُلِّ عالِمٍ يحتَجُّ بكلامِ غيرِه، أو علَى كلامِ غيرِهِ؛ أن يُورِدَ الكلامَ بحُرُوفِهِ، وإنْ حَذَفَ؛ دلَّ علَى موضِعِ الحَذْفِ، وإنْ غَيَّرَ، أو أبْدَلَ؛ نبَّهَ إلى أنَّه تصرَّفَ، وتعَمَّلَ، وذلك واجِبٌ في العِلْمِ، ولَهُوَ في التَّاريخِ أَوْجَبُ؛ إذ الكلمةُ التَّاريخيَّةُ -حادِثتُها، أو معناها- كالاسمِ في النَّاسِ علَى مُسمَّاهُ؛ مهما بدَّلْتَ؛ فلا يجوزُ تبديلُه، ومهما قُلْتَ؛ فليس فيه إلَّا قولٌ واحدٌ، إذا أردتَّهُ لحقيقتِه ).

( إنَّ التَّاريخَ الإسلاميَّ إذ حُمِلَ علَى غيرِ طريقتِه، وتولَّاه غيرُ أهلِه؛ لَمْ يأتِ منه إلَّا ما هُو دخيلٌ فيه، وتقلُّ الرَّوِيَّةُ، ويكثرُ التَّكذيبُ، ويحصلُ الخَطَأُ، ويقَعُ الخَلَلُ؛ لأنَّ الأشياءَ بما كانَتْ عليه، لا بما تتوهَّمُ أنتَ أنَّها كانَتْ عليه ). 

( وإنَّ النَّاسَ خُلِقوا علَى دَرَجاتٍ قد يبعدُ أعلاها مِنْ أسفلِها حتَّى ليكون العالِمُ مِنْ عالمٍ أذكَى منه بموضعٍ كموضِعِ الجاهِلِ مِنَ العالِمِ ).

( «الجديدُ، والقديمُ» لَمْ يكونا -قديمًا- إلَّا في الشِّعْرِ -فقط-، أمَّا اليوم؛ ففي اللُّغةِ، والدِّينِ، وآثارِهما، وهذا هُوَ العجيبُ! ).

( الاستشهاد بالشِّعْرِ لا يُرادُ منه إثباتُ عربيَّة القرآنِ، ولا مُطابَقة ألفاظِه لألفاظ العرَبِ، ولا هُوَ من شَكٍّ في العربيَّةِ، ولا «مِنْ أمرٍ ما...»؛ وإنَّما يُرادُ به اتِّخاذُ القرآنِ سَبَبًا في جَمْعِ مادَّةِ اللُّغةِ وشواهدِها، كما كانَ هو السَّبب في وَضْعِ العلومِ العربيَّةِ كُلِّها؛ أَفَتَرَى وَضْعَ النَّحْوِ كانَ لإثباتِ أنَّ القرآنَ ليس فيه لَحْنٌ، أم كانَ لإقامةِ الألسنةِ الزَّائغةِ حتَّى يسهلَ عليها الأداءُ والقراءةُ؟ ثُمَّ يُرادُ من تقييدِ تلكَ الشَّواهدِ وجمعِها وتدوينِها تفسيرُ كلماتِ القرآنِ؛ ليفهمَها مَن يجيئونَ بعدَ العَرَبِ، كما فَهِمَها العربُ أنفسُهم، وظاهِرٌ أنَّه لا سبيلَ إلى ذلك إلَّا بالنَّصِّ علَى معاني الكلماتِ عندَهم، ولا ثِقةَ بهذا النَّصِّ إن لم يكُنْ عليه دليلٌ من شعرِهم؛ إذ هُوَ وحدَه المحفوظُ عنهم، وهو كانَ مَتْنَ اللُّغةِ والخبَرِ والأثَرِ، ولَعَمْرِي لَولا صنيعُ العُلماءِ في جَمْعِ هذه الشَّواهِدِ؛ لقامَ ألفُ زنديقٍ يُضيفونَ إلى مطاعنِهم في القرآنِ أنَّ فيه خطأً في اللُّغةِ ).

( وما كُلُّ مَنْ يُحْسِنُ شَيْئًا يُحْسِنُ كُلَّ شَيْءٍ ).

( إنَّ أقوَى أسبابِ الخَطَإِ في تاريخِ الأدَبِ شيئانِ: ضَعْفُ الفِكْرِ عن النَّفاذِ في إدراكِ الأسرارِ الَّتي انطوَى عليها ذلك التَّاريخِ، وضعفُ المادَّةِ الَّتي تجمعُ لكَ صُوَرَ التَّاريخِ، وتُعيِّنُ أجزاءَ هذه الصُّورةِ، وتُحَقِّقُ أوضاعَ هذه الأجزاءِ. أمَّا الفِكْرُ؛ فلا نفاذ له إلَّا أن يكونَ فِكْرَ شاعرٍ كاتبٍ بليغٍ، علَى أصلٍ من الفلسفةِ، والذَّكاءِ الشَّفَّافِ، والعِلْمِ العَرَبيِّ، وأمَّا المادَّة؛ فلا قيمةَ لها ما لَمْ يَكُن من الاتِّساعِ بحيثُ تتناولُ عصرًا عصرًا، ورجلًا رجلًا، وما نقصَ من ذلك، فالنَّقصُ في التَّاريخِ بحسبِه، وعلَى مقدارِهِ ).

( إنَّ الرِّقَّةَ والجزالةَ واللِّينَ والجَفاءَ لا تَرْجِعُ في الشِّعْرِ إلى لُغةِ الشَّاعِرِ، ولا عَصْرِهِ؛ ولكن لعواطفِه، ومعانيهِ، وذوْقِهِ، وللطَّريقةِ الَّتي نشأَ عليها، وللشَّاعرِ الَّذي يحتذيهِ؛ فإنَّ الشَّاعرَ لا ينبتُ كما تنبتُ الشَّجَرةُ؛ بل هُوَ يروي شِعْرَ غيرِه، فيعملُ عليه، ثُمَّ تعرضُ له أمورٌ من نفسِهِ ودَهْرِهِ وعَيْشِه؛ فتؤثِّر فيه قُوَّةً وضَعْفًا، وقد كانوا لا يعدُّونَ الشَّاعِرَ إلَّا مَن رَوَى لغيرِهِ؛ لأنَّه مَتَى رَوَى اسْتَفْحَلَ ).

( وإنَّ رَجاءَ الأُمورِ لا يكونُ بزُخْرُفِ الكلامِ؛ ولكن بصحَّتِهِ، ولا تُجْزِئُ منه كثرةُ أساليبِ الباطِلِ؛ وإنَّما غَناؤُهُ في أسلوبٍ واحدٍ؛ إذْ كانَتِ الحقيقةُ الواحِدةُ لا تتعدَّدُ ).

( وإنَّ هناكَ أصلًا مقرَّرًا في الأدَبِ العربيِّ؛ وذلك أنَّ فُحولَ الشُّعراءِ يسبقونَ إلى ابتداعِ المعاني والأساليبِ، فيتبعُهم فيها مَن بعدَهم؛ إذْ لا يقولُ أحدٌ شِعْرًا، ولا يكونُ شاعِرًا إلَّا عن رِوايةٍ وحِفْظٍ. فقد يتَّفقُ المعنَى لشاعرٍ متقدِّمٍ، أو تستوي له الطَّريقةُ في بعضِ الأساليبِ، فيأتي بعدَهُ مَن يجدُ ذلك في طَبْعِهِ، ويكونُ قد اعتادَ منه في أسبابِ عَيْشِهِ ودَهْرِهِ ما لا يجري به اعتبارُ شاعرٍ آخَر، فيحتذي علَى حَذْوِ الأوَّل، ويتَّخذُ كلامَه أصلًا يَبْني عليه، فيُكثِرُ من ذلك، ويُقلِّبُه على وجوهِه؛ حتَّى يميته، ولا يدع فيه شيئًا لغيرِه ).

( إنَّه الجَوْهَرُ والأَصْلُ، لا الظَّاهِرُ والحِلْيَةُ، وإنَّه العَمَلُ لا القَوْلُ، وإنَّه الطَّبْعُ لا الرَّأيُ، وإنَّ الفاسِدَ إذا كانَ مُعلِّمًا فَوَجَدَ طُلَّابًا يهديهم؛ كانَ كالزِّلزالِ إذاصارَ مُهندِسًا فَوجَدَ بُيوتًا يُصْلِحُها! ).

( إنَّ الباطِلَ لا يَجِدُ أبَدًا قُوَّتَهُ في طبيعتِه؛ بل تأتيهِ القُوَّةُ من جهةٍ أُخْرَى، فتُمسِكَه أن يزولَ، فإذا هي تَراخَتْ؛ وَقَعَ، وإذا زالَتْ عنه؛ اضْمَحَلَّ. أمَّا الحَقُّ؛ فثابِتٌ بطبيعتِه، قويٌّ بنفسِهِ ).

( ما هي قيمةُ حُرِّيَّةِ التَّفكيرِ وأنتَ لا تَجِدُها علَى أعظمِ شأنِها، وأكبرِ أسبابِها، وأوْسَعِ أشواطِها= إلَّا في المعتوهينَ، والمُوَسْوِسينَ، وألفافِهم؟
إنَّما الشَّأنُ في سُمُوِّ التَّفكيرِ قبلَ حُرِّيَّتِهِ، فينبغي أن يكونَ الفِكْرُ قويًّا علَى مُصادَمة النَّقْدِ؛ إذ يكونُ صحيحًا لا زائفًا، وحَقًّا لا باطِلًا، ومتَى كانَ الفِكْرُ كذلك؛ فما هو في حاجةٍ إلى قانونٍ يحميهِ؛ لأنَّ قانونه مُناظرته، أمَّا إن كانَ علَى غيرِ هذا، فجاء ضعيفًا، مُتخاذِل الحُجَّةِ، واهيَ الدَّليل، لا يقدرُ على دفعِ الاعتراضِ، ثُمَّ كانَ قائمًا علَى أن يقولَ المفكِّرُ الباحثُ ما شاءَ، ويقول المنتقِدونَ ما شاؤوا، بلا نتيجةٍ هنا ولا هنا= فلعَمْري إنَّ هذه ليست حريَّة تفكيرٍ؛ بل هي حريَّة الخطإِ، والخطأُ دائمًا مقيَّدٌ في أيِّ الأساليبِ جاءَ، ومِنْ أيِّ النَّاسِ وَقَعَ ).

( ولن يكونَ النَّقدُ نقدًا إذا كانَ مِنْ أنصارِكَ، ومُؤازِريكَ؛ بل هُوَ النَّقدُ إذا جاءَ مِنَ المعارِضينَ لكَ، والمنكِرينَ عليكَ، ثُمَّ لا يتمُّ له معناهُ إلَّا إذا كانَ مِنْ أقواهُمْ فِكْرًا، وأصحِّهم رأيًا، وأبلغِهم قَلَمًا ).

( وإنَّا نَجِدُ في كُتُبِ الحِكْمَةِ أنَّه مَتَى اغْتَرَّ العاقِلُ بالأحْمَقِ؛ فتابَعَه، وسَكَنَ إليهِ، واتَّخَذَهُ دَليلًا لمراشِدِ أُمورِهِ؛ كانَ في الأحمقِ المأفونِ حماقةٌ واحدةٌ، وفي ذلك العاقلِ حماقَتانِ! ).

( وإنَّ البُطْءَ والقُوَّةَ إلى زيادةٍ خيرٌ مِن السُّرعةِ والقُوَّةِ إلى نَقْصٍ ).

( ليسَ شاعِرٌ يُعَدُّ شاعِرًا إلَّا إذا أعطَى المعانيَ خيرَ ألفاظِها؛ جزلة في مقامِ الجَزالةِ، ورقيقة في مقام الرِّقَّة. ولا تَجِدُ من يلزَمُ طريقة واحدةً في اختيارِ اللَّفظِ؛ إلَّا إذا لزِمَ فنًّا واحدًا في المعنَى ).

( كَفَى بالمرءِ جَهْلًا إذا أُعْجِبَ برأيِهِ، فكيفَ به مُعْجَبًا ورأيُهُ الجَهْلُ بعَيْنِهِ؟ ).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق