السبت، 26 أكتوبر 2019

توجيه قولهم: (قضيت العجب)



قالَ ابنُ الخشَّابِ في انتقاداتِه علَى مقاماتِ الحريريِّ:
(وقالَ [الحريري] في آخرِها: (فانصرفتُ من حيثُ أتيتُ، وقَضَيْتُ العَجَبَ ممَّا رأيتُ):
قالَ الأصمعيُّ في كتابه في ما تغلطُ فيه العامَّةُ: (يقولونَ: قَضَيْتُ العَجَبَ مِن كذا، والصَّوابُ: ما كدتُّ أقضي العَجَبَ).
والمعنَى علَى ما قالَ الأصمعيُّ؛ لأنَّهم يُريدونَ طُولَ التعجُّب، والمبالغةَ في وصفِه بالكثرةِ، فكأنَّه ما كاد ينقضي. وأنشدَ:
أُنبِئْتُ أنَّ شَبِيهَ الوَبْرِ أوعَدَني * فما قَضَيْتُ لهذا الـمُوعِدِي عَجَبا
ولقولِهم: (قَضَيْتُ العَجَبَ) وُجَيْهٌ ضعيفٌ، وما قاله الأصمعيُّ هو الوجهُ) انتهى.
قالَ ابنُ برِّيٍّ:
(ولم يبيِّن ذلك الوُجيهَ الضَّعيفَ الَّذي يصحُّ عليه (قَضَيْتُ العَجَبَ)، وإنَّما منعَه من ذِكْرِ الوُجَيْه الَّذي صَغَّرَه ووصفَه بالضَّعْفِ مخافةُ أن يتعصَّبَ متعصِّبٌ لابن الحريريِّ، فيُقوِّي ذلك الوُجيهَ الضَّعيفَ ويصحِّحَه.
والَّذي يتوجَّه عليه قولُ ابن الحريريِّ: هو أنَّه يصحُّ أن يُقالَ: (قَضَيْتُ العَجَبَ) علَى معنَى: انقضَى عَجَبي؛ لبلوغه النِّهايةَ الَّتي لا مزيدَ عليها، كما يُقالُ عندَ إفراط العجبِ: عجبتُ حتَّى ما عجبتُ؛ أي: عجبتُ حتَّى فَنِيَ عجبي؛ لأنه بلغَ غايةً لا مزيدَ بعدَها، وعلى هذا قولُ أبي الطيِّب المتنبِّي:
فعَجِبْتُ حتَّى ما عَجِبْتُ مِنَ الظُّبا * ورأيتُ حتَّى ما رأيتُ مِنَ السَّنا
أي: عجبتُ من الظُّبا حتَّى ما عجبتُ، ورأيتُ من السَّنا حتَّى ما رأيتُ؛ أي: حتَّى انقضَى عجبي ورؤيتي؛ لبلوغِهما النِّهايةَ الَّتي لا مزيدَ بعدَها، كما أنَّه إذا انتهى السَّائر في الأرض إلى الغاية الَّتي لا يُمكِنه أن يسيرَ بعدَها؛ فقد انقضَى سيرُه، وانقطعَ سعيُه) انتهى.
وقال ابنُ يعيشَ في «شرح المفصَّل 1/ 8»:
(قال [الزمخشريُّ]: (والَّذي يُقضَى منه العَجَبُ حالُ هؤلاء في قلَّة إنصافِهم، وفَرْطِ جَوْرِهِم واعتِسافِهِم):
(يُقضَى منه العَجَبُ)؛ أي: يُوَفَّى منه العَجَبُ حَقَّهُ؛ يُقال: وَفَّيْت هذا الأمرَ حَقَّهُ؛ إذا تناهيتَ فيه، وأدَّيتَه أداءً وافيًا، وهو مِن قَضَيْتُ الدَّيْنَ، قال كُثَيِّرٌ:
قَضَى كُلُّ ذي دَيْنٍ فَوَفَّى غَريمَهُ * وعزَّةُ مَـمْطولٌ مُعَنًّى غَريمُها
ولا تكادُ العربُ تستعملُ هذه اللَّفظةَ إلَّا منفيَّة؛ نحو: ما قَضَيْتُ العَجَبَ مِن كذا؛ لأنَّهم يريدون المبالغةَ في تفخيمِ الأمرِ وتعظيمِه، وأنَّه لا يمكن توفيةُ العَجَبِ حقَّهُ لعِظَمِه، قال الشَّاعرُ:
أُنبِئْتُ أنَّ شَبِيهَ الوَبْرِ أوعَدَني * وما قَضَيْتُ بهذا الـمُوعِدِي عَجَبا
هكذا ذَكَرَه الأصمعيُّ في كتابه في ما يلحنُ فيه العامَّةُ، قالَ: (يقولونَ: قَضَيْتُ العَجَبَ مِن كذا، والصَّوابُ: ما كدتُّ أقضي منه العَجَبَ).
ولا يبعدُ جوازُه إذا أُريدَ الإكثارُ مِنَ العجبِ تفخيمًا لسببِه) انتهى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق