الأحد، 6 أكتوبر 2019

من عجائب الاتفاق


كنتُ أُقيِّدُ ما يـمُرُّ بي مِن أخبارٍ تُسلَكُ في عجائبِ الاتِّفاقِ، حتَّى اجتمع لديَّ منها قدرٌ.

• قالَ ابنُ المعتزِّ في «طبقات الشعراء» (ص207): (حدَّثَني نصر بن محمَّدٍ، قالَ: أخبرني ابن أبي شقيقة الورَّاق، قالَ: كان يجتمع الشُّعراء في دكَّان أبيه ببغداد، وإنَّ أبا العتاهية حضرَهم يومًا، فتناولَ دفترًا، ووقَّع علَى ظهرِه يُنشدُ:
أيا عجبًا كيفَ يُعصَى الإلـٰ * ـهُ أمْ كيفَ يَجْحَدُهُ الجاحِدُ
وللهِ في كُلِّ تَحريكةٍ * وتَسْكينةٍ أبدًا شاهِدُ
وفي كُلِّ شَيْءٍ له آيةٌ * تَدُلُّ علَى أنَّه واحِدُ
فلمَّا كان من الغدِ جاءَ أبو نُوَاسٍ، فجلسَ فتحدَّث ساعةً، ووقعَتْ عَيْنُه علَى ذلك الدَّفتر، وقرأ الأبيات، فقال: مَن صاحبُها؟ لوددتُّ أنَّها لي بجميع شعري. فقلنا: أبو العتاهيةِ. فكتبَ تحتَها:
سُبحانَ مَنْ خَلَقَ الخَلْـ * ـقَ مِن ضَعيفٍ مَهينِ
فساقَهُ مِن قرارٍ * إلَى قرارٍ مَكينِ
يحولُ خَلْقًا فخَلْقًا * في الحُجْبِ دُونَ العُيونِ
فلمَّا كان من الغدِ جاء أبو العتاهيةِ، وقال: لمن هذه الأبيات؟ لوددتُّ أنَّها لي بجميع شعري. فقلنا: أبو نُوَاسٍ. وتعجَّبْنا من اتِّفاقِ قَوْلَيْهِما!) انتهى.
وعلَى ذِكْرِهما: جاءَ في «سير أعلام النبلاء» (10/ 195): (وكانَ أبو نُواسٍ يُعظِّمُهُ، ويتأدَّبُ معَه؛ لدينِه، ويقولُ: ما رأيتُه إلَّا توهَّمْتُ أنَّه سَمَاوِيٌّ، وأنِّي أَرْضِيٌّ) انتهى.

• جاء في «لباب الآداب» لأُسامةَ بن منقذ (ص124): (قالَ [عُبَيْدُ بنُ شَرِيَّةَ الـجُرْهُمِيُّ]:
(حضرتُ جنازةً، فذكرتُ الموتَ والبِلَى، فَخَنَقَتْني العَبْرةُ، فقلتُ مُتَمَثِّلًا:
يا قَلْبُ إنَّكَ في أسْمَاءَ مَغْرورُ * فاذْكُرْ وَهَلْ يَنْفَعَنْكَ اليَوْمَ تَذْكِيرُ
فاسْتَقْدِرِ اللهَ خَيْرًا وارْضَيَنَّ بِهِ * فَبَيْنَما العُسْرُ إذْ دَارَتْ مَياسِيرُ
وبَيْنَما الـمَرْءُ في الأحْيَاءِ مُغْتَبِطًا * إذْ صارَ في القَبْرِ تَعْفوهُ الأعاصِيرُ
حَتَّى كَأَن لَّـمْ يَكُنْ إلَّا تَذَكُّرُهُ * والدَّهْرُ أيَّتَما حالٍ دَهَارِيرُ
يَبْكِي الغَريبُ عَلَيْهِ لَيْسَ يَعْرِفُهُ * وذو قَرابَتِهِ في الحَيِّ مَسْرورُ
فقالَ لي رجلٌ من أهلِ الجنازةِ: أتدري لِـمَنْ هذا الشِّعر؟ قلتُ: لا. قالَ: هو لهذا المدفونِ، وأنتَ غريبٌ تبكي عليه، وقراباتُه الَّذين يرثونَه مسرورونَ!) انتهى.

• ذكرَ الخطيبُ التِّبريزيُّ في «شرحِ الحماسةِ» وغيرُه أنَّ عَمْرَو بنَ شاس الأسديَّ كانت له امرأةٌ من قومِه، وابنٌ من أَمَةٍ سوداء، يُقال له: عَرَار، فكانت تُعيِّرُ به أباه، وتؤذيه، فأنكرَ عمرٌو عليها أذاها له، وقالَ:
أرادَتْ عَرَارًا بالهَوَانِ ومَن يُرِدْ * عَرَارًا لَعَمْري بالهَوَانِ لقد ظَلَمْ
وإنَّ عَرَارًا إن يَكُنْ غَيْرَ واضِحٍ * فإنِّي أُحِبُّ الـجَوْنَ ذا الـمَنكِبِ العَمَمْ
وكانَ عَرار أحدَ فُصحاء العقلاءِ، وتوجَّه من عند المهلَّب بن أبي صفرة إلَى الحجَّاج بن يوسف الثَّقفي رسولًا في بعض فتوحِه، فلمَّا مَثَلَ بين يديه؛ لم يعرفْه وازدراه، فلمَّا استنطقه؛ أبانَ وأعربَ ما شاء، وبلغَ الغاية والمرادَ في كلِّ ما سُئلَ عنه، فأنشدَ الحجَّاجُ متمثِّلًا:
أرادَتْ عَرَارًا بالهَوَانِ ومَن يُرِدْ * عَرَارًا لَعَمْري بالهَوَانِ لقد ظَلَمْ
فقال عَرار: أنا -أيَّد الله الأميرَ- عَرار. فأُعجِبَ به، وبذلك الاتِّفاقِ.
انظر: «وفيات الأعيان» (4/ 418).

• قالَ ابنُ خلّكان في «وفيات الأعيان» (3/ 192) في ترجمةِ الشَّاعرِ أبي نصر عبد العزيز بن عُمَر المعروف بابنِ نُباتةَ السَّعديِّ (ت 405): (قالَ أبو غالب محمَّد بن أحمدَ بن سَهْل: دَخَلْتُ على أبي الحسنِ محمَّد بن عليّ بن نصر البغداديّ -صاحب الرَّسائل، وصاحب كتاب «المفاوضة»-... وكان في مَرَضِ مَوْتِه بواسط، فقعدتُّ عندَه قليلًا، ثمَّ قُمتُ لأنَّه كان به قيام، فأنشدَني بيتَ أبي نصر عبدِ العزيزِ، وهو:
مَتِّعْ لحاظَكَ مِنْ خِلٍّ تُوَدِّعُهُ * فما إخالُكَ بَعْدَ اليَوْمِ بالوادي
ثمَّ قالَ لي أبو الحسنِ المذكورُ: عدتُّ أبا نصر ابنَ نُباتة في اليوم الَّذي تُوفِّي فيه، فأنشدَني هذا البيتَ، وودَّعتُهُ، وانصرفتُ، فأُخْبِرْتُ في طريقي أنه تُوفِّيَ. قال الشَّيخ أبو غالب: وفي تلك اللَّيلة تُوفِّي أبو الحسنِ المذكورُ...
وقال أبو عليٍّ محمَّد بن وشاح بن عبد الله: سمعتُ أبا نصر ابنَ نُباتةَ يقولُ: كنتُ يَومًا قائلًا في دهليزي، فدُقَّ عليَّ البابُ، فقلتُ: مَنْ؟ فقال: رجلٌ من أهل المشرقِ، فقلتُ: ما حاجتكَ؟ فقال: أنتَ القائلُ:
ومَن لَمْ يَمُتْ بالسَّيْفِ ماتَ بِغَيْرِهِ * تَنَوَّعَتِ الأَسْبابُ والدَّاءُ وَاحِدُ ف
قلتُ: نعم، فقالَ: أَرويه عنكَ؟ فقلتُ: نعم. فمضَى. فلمَّا كانَ آخر النَّهار دُقَّ عليَّ البابُ، فقلتُ: مَنْ؟ فقال: رجلٌ من أهل تاهَرْتَ من الغربِ، فقلتُ: ما حاجتكَ؟ فقال: أنتَ القائلُ:
ومَن لَمْ يَمُتْ بالسَّيْفِ ماتَ بِغَيْرِهِ * تَنَوَّعَتِ الأسبابُ والدَّاءُ وَاحِدُ
فقلتُ: نعم، فقالَ: أَرويه عنكَ؟ فقلتُ: نعم. وعجبْتُ كيفَ وَصَلَ إلى الشَّرْقِ والغَرْبِ!) انتهى.

• حُكِيَ عن ابنِ المعلم الشَّاعر أنَّه قالَ: كنتُ ببغداد، فاجتزتُ يومًا بالموضعِ الَّذي يجلسُ فيه أبو الفرج بنُ الجوزيِّ للوعظِ، فرأيتُ الخَلْقَ مُزدحِمينَ، فسألتُ بعضَهم عن سببِ الزِّحامِ، فقالَ: هذا ابنُ الجوزيِّ الواعظُ جالسٌ، ولم أكنْ علمتُ بجلوسِه، فزاحمتُ وتقدَّمتُ حتَّى شاهدتُّه، وسمعتُ كلامَه وهو يَعِظُ، حتَّى قالَ مُستشهِدًا علَى بعضِ إشاراتِه: ولقد أحسن ابنُ المعلم حيثُ يقولُ:
يزدادُ في مسمعي تَكرارُ ذِكرِكمُ * طِيبًا ويحسُنُ في عيني تكرُّرُهُ
فعجبتُ من اتِّفاقِ حضوري، واستشهاده بهذا البيتِ من شعري، ولم يعلمْ بحُضوري لا هوَ ولا غيرُه منَ الحاضرينَ.
نقلَ هذا ابنُ خلّكان في «وفيات الأعيان» (5/ 8).

• جاء في «شرح لامية العجم» للصفدي (1/ 103): (كان يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة واليًا علَى إفريقية، وأخوه روح واليًا علَى السّند، فلما توفِّي يزيد بإفريقية قالَ النَّاس: ما أبعدَ ما يكونُ بين قَبْرَيْ هذين الأخوين! فاتَّفق أنَّ الرَّشيدَ عزل روحًا عن السّند، وجهّزه واليًا مكان أخيه، فدخل إفريقية، ولم يزلْ واليًا إلَى أن مات بها، ودُفن مع أخيه في قبر واحد، رحمهما الله تعالَى) انتهى.

• عُمَرُ بنَ أبي ربيعةَ كانت ولادتُه في اللّيلةِ التي قُتِل فيها عُمَرُ بن الخطَّاب -رضي الله عنه-. وكان الحسن البصريُّ -رحمه الله- إذا جرَى ذِكر ولادةِ عُمَرَ بن أبي ربيعةَ في اللّيلةِ التي قُتِل فيها عُمَر - رضي الله عنه- يقول: أيُّ حقٍّ رُفِع، وأيُّ باطلٍ وُضِع!
انظر: «وفيات الأعيان» (٣/ ٤٣٩).
وكانت ولادةُ أبي عبيدة مَعْمَر بن المثنَّى في اللَّيلة الَّتي تُوفِّي فيها الحسن البصريُّ، قالَ ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» (5/ 242): (والذي يدلُّ عليه أنَّ الأمير جعفر بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- سأله عن مولدِه، فقال: قد سبقَني إلَى الجواب عن مثل هذا عُمر بن أبي ربيعة المخزوميّ، وقد قيلَ له: متَى ولدتَّ؟ فقال: في الليلة التي مات فيها عُمر بنُ الخطَّاب -رضي الله عنه-، فأيّ خيرٍ رُفِع، وأيّ شرٍّ وُضِع؟ وإني ولدتُّ في الليلةِ التي مات فيها الحسن البصريُّ، وجوابي جوابُ عُمر بن أبي ربيعة. وقد تقدَّم في ترجمة ابن أبي ربيعةَ هذا الجواب منسوبًا إلى الحسن البصريِّ -رضي الله عنه-) انتهى.

• من غريبِ ما اتَّفَقَ لأبي الفَرَجِ المعافَى بن زكريَّا النَّهْرَوَانيِّ ما حكاهُ أبو عبد الله الحميديُّ -صاحبُ «الجمع بين الصَّحيحين»- قالَ: قرأتُ بخطِّ أبي الفَرَجِ المعافَى بن زكريَّا النَّهْرَوَانيِّ: حججتُ سنةً، وكنتُ بمِنًى أيَّامَ التشريقِ، فسمعتُ مُناديًا يُنادي: يا أبا الفَرَجِ، فقلتُ: لعلَّه يُريدُني، ثمَّ قلتُ: في النَّاسِ خَلْقٌ كثيرٌ ممَّن يُكْنَى أبا الفَرَجِ، ولعلَّه يُنادي غيري، فلم أُجِبْهُ، فلمَّا رأَى أنَّه لا يُجيبُه أحدٌ نادَى: يا أبا الفرجِ المُعافَى، فهممتُ أن أجيبَه، ثمَّ قلتُ: قد يتَّفق أن يكونَ آخَر اسمُه المعافَى، ويُكْنَى أبا الفرجِ، فلم أجبْه، فرجعَ فنادَى: يا أبا الفَرَجِ المعافَى بن زكريَّا النَّهْرَوَانيّ، فقلتُ: لم يبقَ شَكٌّ في مناداتِه إيَّاي، إذ ذكرَ اسمي وكُنيتي واسم أبي وبلدي الَّذي أُنسَبُ إليه، فقلتُ: ها أنا ذا، فما تريدُ؟ قالَ: لعلَّك من نهروان الشَّرق، فقلتُ: نعم، فقالَ: نحن نريدُ نهروان الغرب، فعجبتُ من اتِّفاقِ الاسمِ والكنيةِ واسم الأبِ وما أنتسبُ إليه، وعلمتُ أنَّ بالمغربِ موضعًا يُسمَّى النَّهْروان، غير النَّهْرَوان الَّذي بالعراقِ!
نقلَه ابنُ خلّكان في «وفيات الأعيان» (5/ 223).

• قالَ البغداديُّ في «خزانة الأدب» (1/ 230): (وأبو هلالٍ العسكريُّ هو الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيَى بن مِهران اللُّغويّ العسكريّ. وكان تلميذَ أبي أحمد الحسن بن عبد الله العسكريّ، وافقَ اسمُه اسمَ شيخه، واسمُ أبيه اسمَ أبيه، وهو عسكريٌّ أيضًا، فربَّما اشتبه ذِكرُه بذِكرِه إذا قيلَ: الحسن بن عبد الله العسكريّ) انتهى.

• جاء في «بغية الطلب» (ص: 878): (كانَ بالمشرقِ لُغَوِيٌّ، وبالمغربِ لُغَوِيٌّ، في عَصْرٍ واحدٍ، لَمْ يَكُنْ لهما ثالِثٌ، وهما ضَريرانِ، فالمشرقيُّ أبو العَلاءِ التَّنوخيُّ بالـمَعَرَّةِ، والمغربيُّ ابنُ سِيده الأندلسِيُّ) انتهى.

قالَ ابنُ خلكان في ترجمةِ الخطيبِ البغداديِّ مِن كتابِه «وفيات الأعيان» (1/ 93): (والعَجَبُ أنَّه كانَ في وقتِه حافظَ المشرقِ، وأبو عُمَرَ يوسفُ بنُ عبد البَرِّ - صاحب كتاب «الاستيعاب»- حافظَ المغربِ، وماتا في سنةٍ واحدةٍ) انتهى.

• قالَ ابنُ خلّكان في ترجمة كمال الدِّين مُوسَى بن أبي الفضل يونس من كتابه «وفيات الأعيان» (5/ 317): (وكانت ولادتُه يوم الخميس، خامس صفر سنةَ إحدَى وخمسين وخمسمئة، بالموصلِ. وتُوفِّي بها رابع عشر شعبان سنةَ تسع وثلاثين وستّمئة...
ولـمَّا كنتُ أتردَّد إلى خدمتِه بالموصلِ؛ أوقعَ اللهُ في نفسي أنَّه إن رُزقتُ ولدًا ذكرًا سمَّيتُه باسمِه، ثمَّ سافرتُ في بقيَّة السَّنة المذكورة إلى الشَّام، وأقمتُ به عشرَ سنين، ثمَّ سافرتُ إلى الدِّيارِ المصريَّة في سنة ثلاث وثلاثين وستّمئة، وتقلَّبت الأحوالُ، ثمَّ حصل التأهُّل، فرزقَني اللهُ ولدي الأكبر في بكرة يوم السَّبت، حادي عشر صفر سنةَ إحدَى وخمسين وستّمئة، بالقاهرةِ المحروسةِ، فسمَّيتُه مُوسَى، وعجبتُ من موافقتِه للشَّيخِ في الولادةِ في الشَّهر والسَّنة، فكان بين مولدِهما [مئة] سنةٍ. وذكرتُ ذلك للشَّيخ الحافظ زكيِّ الدِّين عبد العظيم المحدِّث، فعجبَ من هذا الاتِّفاق، وجعلَ يُكرِّر التَّعجُّبَ، ويقولُ: واللهِ إنَّ هذا لشيءٌ غريبٌ!) انتهى.

• قال الشَّيخُ شرفُ الدِّينِ [عبد العزيز الأنصاريُّ] -رحمه الله-: من طريفِ الاتِّفاق أنَّني نظمتُ أبياتًا في زمن الصِّبا في بعض رَحْلي عن حَماةَ، منها:
أآمُلُ كتمانَ الهوَى وهو واضحُ * ودمعيَ يومَ البَيْنِ بالسِّرِّ بائحُ
لعَمْري لقد حاولتُ ما لا أنالُه * كما حاولَتْ إمساكَ قلبي الجوارحُ
لعلَّ بِعادي عن حَماةَ يُعيدُني * تُخافُ السُّطَا منِّي وتُرجَى المنائحُ
لأهزمَ جيشَ المالِ وهْوَ عَرَمْرَمٌ * وأدفعَ صَدرَ الخَطْبِ والخَطْبُ فادحُ
على أنَّني قد كنتُ فيها مكرّمًا *  تُراعُ لكرَّاتي القُرومُ الجحاجِحُ
مُقيمًا برَبْعِ الدَّيرِ جِسمي وصُحبتي * وقلبي برَبْع القَفْرِ غادٍ ورائحُ
يُهيِّجُ أشجاني به كلَّ ليلةٍ * وتصرفُني عما يقولُ النَّواصِحُ
بُدورٌ من البابِ المصَرَّعِ طُلَّعٌ * ومِسْكٌ من البابِ المصَرَّعِ فائحُ
فحفظ الأبياتَ بعضُ السَّفَّارة، وحُفِظَتْ عنه في الشَّرق، ثمَّ قَدِمَ شاعرٌ من أهل الموصلِ، يقال له: البدر محمَّد بن روضة، وكانت والدتُه تتردَّد إلى دارنا أيَّامَ مقامِنا بالموصلِ، فأنزلَه والدي وأكرمَه، وكان يجلس على حانوتِ الفخرِ عبد الرَّحمن بن الصَّياد بسوق العِطْر في كثيرٍ من أوقاتِه، يُذاكره ويُناشده، ويخرج معه في آخر النَّهار إلى ظاهر البلد للتنزُّه والرِّياضةِ. فاتَّفق أنَّه خرجَ معه يومًا يريدان الموصليَّ، فاجتازا ببابٍ ذي مصراعين، وقد ولدَ في الدَّار مولودٌ، والطِّيب ينفح، والبَخور يتضوَّع، وفي الباب صبيانٌ كالبدورِ الطُّلَّع، وأصوات القِيان في باطن الدَّار، وظاهرها يُطرب السَّامع، فوقف مع النظَّارة، فلمَّا رأى ابنُ روضة ذلك أنشدَ متمثِّلًا:
بُدورٌ من البابِ المصَرَّعِ طُلَّعٌ ... ... ... ... ... ... ... ... ...
فضحكَ الفخرُ بن الصيَّاد، وقال له: أتعرفُ هذا الشِّعْرَ لمن؟ فقال: لا واللهِ، بل هذه أبياتٌ سمعتُها في الشَّرقِ، لا أعرف قائلَها، فلمَّا رأيت الصُّورة تمثَّلتُ بالبيتِ، فقال له: إنَّ البيت لفلان الَّذي أنت نزيلُه، ونزيلُ والدِه، وهذا البابُ بعَيْنِه هو الَّذي عناه بهذا البيتِ!

وقالَ الشَّيخ شرفُ الدِّين: حضرتُ بين يديْ والدي -رحمه الله-، وقد قاربْتُ خمسَ عشرةَ سنةً، فسألتُه عن عمرِه، فقالَ: خُذْ في شأنِكَ! هكذا وَرَدَ في حديثٍ مُسَلْسَل، فألححتُ عليه، فأمرَني، فأحضرتُ كتابًا من كتب القراءاتِ، فأراني صفحةً في آخرِه مكتوبًا عليها بخطِّ جدِّي -رحمه الله-:
(وُلِدَ الوَلَدُ المبارَكُ مُحَمَّدٌ في الثَّاني والعشرين مِن جُمادى الأُولى سنةَ ستٍّ وستِّين وخمس مائة).
وتحته بخطِّ والدي -رحمه الله-: 
(وُلِدَ الوَلَدُ المبارَكُ عبدُ العزيزِ ضَحْوَةَ نهار الأربعاء في الثَّاني والعشرين مِن جُمادى الأُولى سنةَ ستٍّ وثمانين وخمس مائة).
 فأخذْنا نتعجَّب من هذا الاتِّفاق في السَّنةِ والشَّهْرِ والجزء من اليوم!
نقلتُه من الملحق بديوان الصَّاحب شرف الدِّين الأنصاري (ص543- 545)، (ص 579، 580). ونقلَ الخَبَرَيْنِ محقِّقُ الدِّيوان د. عمر موسى باشا عن «ذيل مرآة الزمان» لليونينيِّ.

• قال أبو إسحاق الشَّاطبيُّ في «الإفادات والإنشادات» (ص115): (أنشدني الفقيه الفاضل أبو محمَّد عبد الله بن حذلم، قال: أنشدني الفقيه الأجلّ الكاتب أبو عبد الله محمد بن إبراهيم ابن الشَّيخ الأجلّ الأستاذ العالم المتفنِّن الشَّهير أبي عبد الله بن الرقام، قال: أنشدني أبي، قالَ: أنشدني أخي محمَّد لنفسه:
جُلْ في البلاد تَنَلْ عزًّا ومكرمةً * في كلِّ أرضٍ تكن تلقَى مُناكَ بِها
جلُّ الفوائدِ في الأسفارِ مكتسبٌ * واللهُ قد قالَ: (فامْشُوا في مناكِبِها)
قال لي الفقيه أبو محمد عبد الله بن حذلم: فقلتُ له: إنِّي أحفظ للإمام الشَّهير أبي حيَّان بن يوسف بن حيَّان النفزيّ قطعةً في هذا المعنى والقافية والتزام التجنيس، وهي:
يا نفسُ مالكِ تهْوَيْنَ الإقامةَ في * أرضٍ تعذَّرَ كلٌّ من مُناكِ بها
أمَا تلوتِ وعجزُ المرءِ منقصةٌ * في مُحْكَمِ الوحيِ: (فامْشُوا في مناكِبِها)
قال: فقضينا العجبَ  من هذا الاتِّفاق الغريب!) انتهى.

• جاء في «ثمرات الأوراق» (ص27): (ومن غريبِ ما نُقِلَ عن الفقيهِ عُمارة اليَمَنِيِّ الشَّاعر أنَّه مَرَّ بمصلوبٍ، فقالَ:
ومدَّ علَى صَليبِ الصَّلْبِ مِنْهُ * يَمينًا لا تَطولُ إلى الشِّمالِ
ونَكَّسَ رأسَهُ لعِتابِ قَلْبٍ * دَعَاهُ إلى الغَوايةِ والضَّلالِ
فلَمْ يَـمْضِ ثلاثةُ أيَّامٍ حتَّى صُلِبَ بينَ القَصْرَين مع الجماعةِ الغُرَماءِ) انتهى.

• قالَ أبو عبدِ الله الحميديُّ في «جذوة المقتبس» (ص349): (قال لنا أبو محمَّد عليُّ بن أحمدَ: ومن عجائب الدُّنيا الَّتي لا تكاد تتَّفق مثلُها أنَّ صاعدَ بنَ الحسنِ اللُّغويَّ أهدَى إلى المنصور أبي عامر أَيِّلًا، وكتب معه بهذه الأبياتِ:
...
مولايَ مُؤنِسَ غُربتي مُتخطِّفي * مِن ظُفْرِ أيَّامي ممنِّعَ مَعْقِلي
عَبْدٌ نَشَلْتَ بضَبْعِهِ وغَرَسْتَهُ * في نِعمةٍ أَهْدَى إليكَ بِأَيِّلِ
سمَّيْتُهُ غَرْسِيَّةً وبعثْتُهُ * في حَبْلِهِ ليُتاحَ فيه تفَؤُّلي
فلئن قَبِلْتَ فتلكَ أسنَى نِعمةٍ * أسْدَى بها ذو مِنْحةٍ وتَطَوُّلِ
صَبَحَتْكَ غاديةُ السُّرورِ وجَلَّلَتْ * أرجاءَ رَبْعِكَ بالسَّحابِ المخضلِ
فقضى في سابقِ علمِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- وتقديرِه: أنَّ غرسيَّةَ بنَ شانجةَ من ملوك الرُّوم -وهو أمنعُ من النَّجمِ- أُسِرَ في ذلك اليومِ بعينِه الَّذي بعثَ فيه صاعدٌ بالأَيِّل، وسماه غَرْسِيَّة تفاؤلًا بأسرِهِ) انتهى.

• قالَ ابنُ خلّكان في ترجمة الخطيب الحصكفيِّ من كتابه «وفيات الأعيان» (6/ 209):
(وكان بمدينة آمد شابَّان بينهما مودَّةٌ أكيدةٌ، ومعاشرةٌ كثيرةٌ، فركبَ أحدُهما ظاهر البلدِ، وطُردَ فرسُه، فتقنطرَ فماتَ، وقعدَ الآخَر يستعملُ الشَّراب، فشرقَ فمات في ذلك النَّهار، فعملَ فيهما بعضُ الأدباءِ:
تقاسما العيشَ صَفْوًا والرَّدَى كَدَرًا * وما عهدْنا المنايا قَطُّ تُقْتَسَمُ
وحافظا الوُدَّ حتَّى في حمامِهما * وقلَّما في المنايا تُحفَظُ الذِّمَمُ
فلمَّا وقف الخطيب المذكور على البيتين قالَ: هذا الشَّاعر قصَّرَ؛ إذ لم يذكرْ سببَ موتهما، وقد قلتُ فيهما:
بنفسي أُخَيَّانِ من آمدٍ * أُصيبا بيومٍ مَشُومٍ عَبوس
دهَى ذا كُمَيْتٌ من الصَّافناتِ * وهذا كُمَيْتٌ من الخَندَريس
قلتُ: ولو قالَ:
دهَى ذا كُمَيْتٌ من الصَّافناتِ * وهذا كُمَيْتٌ من الصَّافيات
لكان أحسنَ لأجل المجانسةِ، وكان يجعلُ البيت الأوَّل:
بنفسي أُخَيَّانِ من آمدٍ * أُصيبا بيومٍ شديدِ الأذاةِ
أو ما يُناسبُ هذا) انتهى.

• قال الجاحظُ في «البخلاء» -عند ذكر أهل خراسان-: (ورأيتُ أنا حمَّارةً منهم، زُهاء خمسين رجلًا، يتغدَّون على مباقل بحضرة قرية الأعرابِ، في طريق الكوفةِ، وهم حُجَّاج، فلم أرَ من جميعِ الخمسين رجلين يأكلانِ معًا، وهم في ذلك متقارِبونَ، يُحدِّثُ بعضُهم بعضًا. وهذا الَّذي رأيتُه منهم مِن غريبِ ما يتَّفقُ للنَّاسِ) انتهى.

• جاء في «ثمار القلوب» (ص366) للثَّعالبيِّ: (كانَ لطيَّاب السَّقَّاء حِمارٌ قديمُ الصُّحبة، ضعيف الحملة، شديد الهُزال، ظاهر الانخذالِ، كاسِف البالِ... وكانَ عرضةً لشِعرِ أبي غلالةَ المخزوميّ... ولأبي غلالةَ في وصفه بالضَّعف، والتوجُّع له من الخسف نيِّفٌ وعشرون مقطوعة مضمَّنة، أوردَها كلّها حمزةُ الأصبهانيُّ في كتابه «مضاحك الأشعار» على حروف الهجاء.
وحكَى محمَّد بن داود بن الجراح -عن جعفر رفيق طيَّاب- أنَّ حمار طيَّاب نفقَ، فماتَ طيَّاب على أثرِه بأسبوع، ثم ماتَ أبو غلالةَ على أثرِ طيَّاب بأسبوع، وكانَ ذلك من عجيبِ الاتِّفاقاتِ) انتهى.
قوله: (ثم ماتَ أبو غلالةَ على أثرِ طيَّاب بأسبوع) جاء في الأصل: (ثمَّ ماتَ أبو غلالةَ على أثرِ حمار طيَّاب)، والمثبَتُ من كتاب «ما يعول عليه في المضاف والمضاف إليه» (ص1477).

• قال الثَّعالبيُّ في «اليتيمة» (٣/ ١٦٩) -بعد أن ذكر قصيدةً للشَّريف الرَّضيِّ في رثاء أبي منصور الشيرازي الكاتب-: (ولستُ أدري في شعراء العصر أحسن تصرُّفًا في المراثي منه. ولَـمَّا رثى أبا منصور الشيرازيَّ بهذه القصيدة في سنة ثلاث وثمانين رثَى أبا إسحاق الصابي في سنة أربع وثمانين بالقصيدة التي أوردتُّها في بابه، ثمَّ لـمَّا حال الحولُ وتوفِّي الصَّاحبُ في سنة خمس وثمانين -وتعجَّب النَّاس من انقراض بُلَغاء العصرِ الثَّلاثةِ على نسق في ثلاث سنين- رثاه أيضًا بقصيدةٍ سأورد غُررَها في مراثي الصَّاحب) انتهى.

  جاء في «بدائع البدائه» لابن ظافر (ص 162، 163): (ذكرَ أبو عبد الله بن شرف القيروانيُّ في كتاب «أبكار الأفكار»، قالَ: استدعاني المعزُّ بن باديس يومًا، واستدعى أبا عليٍّ الحسن بن رشيق الأزديّ -وكنَّا شاعرَيْ حضرتِه، وملازمَيْ ديوانِه- فقالَ: أُحِبُّ أن تصنعا بين يديَّ قطعتينِ في صفة الموزِ علَى قافية الغَينِ، فصنعْنا حالًا من غيرِ أن يقفَ أحدُنا على ما صنعه الآخَرُ، فكان الَّذي صنعتُه:
يا حبَّذا الموزُ وإسعادُه * من قبلِ أن يمضغَه الماضِغُ
لانَ إلَى أن لا مَجَسٌّ له * فالفَمُ ملآنُ به فارغُ
سيَّان قلنا مأكلٌ طيِّبٌ * فيه وإلَّا مَشْرَبٌ سائغُ
والَّذي صنعَه ابنُ رشيق:
موزٌ سريعٌ أكلُهُ * مِن قبلِ مَضْغِ الماضغِ
مأكلةٌ لآكلٍ * ومشربٌ لسائغِ
فالفمُ مِن لِينٍ به * ملآنُ مثل فارغِ
يُخالُ وهو بالغٌ * للحَلْقِ غيرَ بالغِ
فأمرَنا للوقتِ أن نصنعَ على حرف الذَّالِ، فعملنا ولم يُرِ أحدُنا صاحبَه ما عملَ، فكان ما عملتُه:
هل لكَ في موزٍ إذا * ذُقناه قلنا حبَّذا
فيه شرابٌ وغِذا * يُريكَ كالماءِ القذَى
لو ماتَ مَن تلذَّذا *  به لقيلَ ذا بِذا
وما عملَه ابنُ رشيق:
لله موزٌ لذيذٌ *  يُعيذُه المستعيذُ
فواكهٌ وشرابٌ * به يُداوَى الوقيذُ
ترَى القَذَى العينُ فيه * كما يُريها النَّبيذُ
قالَ ابنُ شرف: فأنتَ ترَى هذا الاتِّفاقَ لـمَّا كانت القافيةُ واحدةً، والقصدُ واحدًا، ولقد قالَ من حضرَ ذلك اليوم: ما ندري ممَّ نتعجَّب: أمِنْ سُرعةِ البديهةِ، أم من غرابةِ القافيةِ، أم من حُسنِ الاتِّفاق!) انتهى.

• جاء في «تراجم الأعيان من أبناء الزمان» (1/ 107): (وقد قال بعض الطَّلبة في دمشق لـمَّا ماتَ أحمد العناياتي مُشيرًا إلَى عام وفاته: (ماتَ العناياتي). فحسبْنا ألفاظَ (ماتَ العناياتي) بحساب الجمَّل، فكان موافقًا لتاريخ وفاتِه، ماتَ في سنة أربع عشرة بعد الألف. وهذا مِن العجائب التي يقلُّ اتِّفاق مثلها) انتهى.

• جاء في «المعجم المؤسس» (2/ 351) للحافظ ابن حَجَر في ترجمة عائشة بنت محمَّد بن عبد الهادي المقدسيَّة الصَّالحيَّة: (وهي آخرُ مَنْ حدَّث بصحيح البخاريِّ عاليًا بالسَّماعِ. ومن الاتِّفاقِ العجيبِ أنَّ ستَّ الوزراء بنت عُمَر بن أسعد بن المنجَّى التَّنوخيَّة كانت آخرَ مَن حدَّث من النِّساء عن ابن الزبيديِّ في الدُّنيا، وماتت سنةَ ستّ عشرة وسبع مئة، وعائشةُ هذه ضاهتْها في وفاتِها سنةَ ستّ عشرة وثمان مئة، وزادتْ عليها بأنَّه لم يبقَ من الرِّجالِ أيضًا مَن سَمِعَ مِن الحجَّار رفيق ستِّ الوزراء في الدُّنيا غيرها، وبين وفاتيهما مئة سنة سواء) انتهى.

• قالَ شمس الدّين السّخاويّ في «الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر» (1/ 175): (اتَّفق أنَّه جاء للقراءةِ على الجمال الحلاويِّ في «مسند أحمد» على عادته، فوجده مريضًا، فطلع هو والجماعة لعيادته، فأذِنَ له الشَّيخُ في القراءة فشرع، ففي الحال مرَّ حديثُ أبي سعيد -رضي اللَّه عنه- في رُقْية جبريل -عليه السَّلام-. قال شيخُنا: فوضعتُ يدي عليه في حال القراءة، ونويتُ رُقْيَته، فاتَّفق أنَّه شُفِيَ حتَّى نزل للجماعة في الميعاد الثَّاني مُعافًى.
وله اتِّفاقاتٌ قريبةُ الشَّبه بذلك، من جملتها: أنَّه كان يكتبُ في حديث [المغيرة] بن أبي قُرَّة عن أنس، أنَّ رجلًا أتى النبيَّ -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم-، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، أُرسلُ ناقتي وأتوكَّل، أو أَعقِلُها وأتوكَّل؟ قال: "اعقِلْها وتوكَّل". فاتَّفق أنَّ غُلامه جاءَ يستأذنه في تركِ شيءٍ مِن حوائج صاحب التَّرجمة خارجَ البيت. قال شيخُنا: فقلتُ له: اعقلها وتوكَّل.
وكان ينظرُ في ليلة الأحد ثاني عشر جُمادى الأولى سنة أربع وأربعين في «دُمية القَصْر» للباخَرْزِي، فمرَّ في ترجمة المظفَّر بن عليٍّ أنَّ له هذه الأبيات في الرِّثاء، وهي:
بلاني الزَّمانُ ولا ذَنْبَ لي * بلى إنَّ بَلْواهُ للأَنبَلِ
وأعظمُ ما ساءَني صَرْفُهُ * وفاة أبي يوسفَ الحَنبَلِي
سِراجُ العلوم ولكنْ خَبَا * وثوبُ الجَمالِ ولكن بَلِي
قال شيخُنا: فتعجبتُ مِن ذلك، ووقعَ في نفسي أنَّ قاضي الحنابلةِ المحبَّ أحمد بن نصر اللَّه البغداديّ يموتُ بعدَ ثلاثة أيَّام بعدد الأبياتِ، وكان متوعِّكًا، فكان كذلك) انتهى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق